وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فالتأويل في مثل قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) ، وقوله تعالى : ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) ، وقول يوسف : ( ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) ، وقول يعقوب : ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) ، وقال تعالى : ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ) ، وقال يوسف : ( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) ، فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به ، وترك المنهي عنه كما قال : السنة تأويل الأمر والنهي ، وقالت ابن عيينة عائشة رضي الله عنه : " . كان [ ص: 133 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن
وأما تأويل ما أخبر به الله تعالى عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها ، ذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ، ولهذا قال مالك وربيعة : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، وكذلك قال ابن الماجشون وغيرهم من السلف : إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه . والإمام أحمد
وقد فسر الآيات التي احتج بها الإمام أحمد الجهمية من المتشابه وقال : إنهم تأولوها على غير تأويلها ، وبين معناها ، وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي ، وإن لم يعلموا الكيفية ، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار ، وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته .
فمن قال من السلف : إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله ، بهذا المعنى ، فهو حق ، وأما من قال : إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهو غلط ، والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه ، قال مجاهد : عرضت المصحف على من فاتحته إلى خاتمته ، أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وقال ابن عباس : ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ، وقال عبد الله بن مسعود : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها ، وقال الحسن البصري مسروق : ما نسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ، ولكن علمنا قصر عنه ، وقال : ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها . الشعبي
والمقصود أن معارضة العقل للسمع لا بد لصاحبها أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة ، أسلمها هذا المسلك الرابع ، وقد علمت بطلانه ، وإنما كان أقلها بطلانا لأنه يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله ، فإن صاحبه يقول : لا أفهم من هذه النصوص شيئا ولا أعرف المراد بها ، وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله والإخبار عن النصوص بالكذب .
السادس والعشرون : أن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في [ ص: 134 ] الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال متشابهة مجملة تحتمل معاني متعددة ، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمالي في اللفظ يوجب تأويلها بحق وباطل فيما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما بما فيها من الباطل لأجل الالتباس والاشتباه ، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء .
وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا ، وهو منشأ البدع كلها ، فإن البدع لو كانت باطلا محضا لما قبلت ، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها ، ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة ، ولكنها تشتمل على الحق والباطل ، ويلتبس فيها الحق والباطل ، كما قال الله تعالى : ( لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون فنهى عن لبس الحق بالباطل ، ولبسه به : خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ، ومنه التدليس ، وهو التدليس والغش الذي باطنه خلاف ظاهره ، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان ، معنى صحيح ومعنى باطل ، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ، ومراده الباطل ، فهذا من الإجمال في اللفظ .
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان ، وهو حق من أحدهما ، وباطل من الآخر ، فيوهم إرادة الوجه الصحيح ، ويكون غرضه الباطل ، فأضل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشيبة ، ولا سيما إذا صادفت أذهانا سقيمة ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب ؟ فنسأل الله مثبت القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه .
قال في خطبة كتابه في الرد على الإمام أحمد الجهمية : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، متفقون على مخالفة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتن المضلين .
[ ص: 135 ] وهذه الخطبة تلقاها عن الإمام أحمد رضي الله عنه ، وقد ذكرها عمر بن الخطاب في أول كتابه في الحوادث والبدع ، فقال : حدثنا محمد بن وضاح أسد حدثنا رجل يقال له : يوسف ، ثقة ، عن أبي عبد الله الواسطي ، رفعه إلى أنه قال : الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى ، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وتائه ضال قد هدوه ، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد ، فما أحسن أثرهم على الناس عليهم ، وما نسيهم ربك ، ولا كان ربك نسيا ، جعل قصصهم هدى ، وأخبر عن حسن مقالاتهم ، فلا تقتصر عنهم ، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة . عمر بن الخطاب
فالمتشابه ما كان له وجهان يخدعون به جهال الناس ، فيا لله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم ، واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنة ، وهو التوحيد الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها ، فاصطلح أهل الباطل على وضعه ، ثم دعوا الناس إلى التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم ، وظن أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرسل .