الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3747 - ( وعن أبي سعيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما } . رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            3748 - ( وعن قتادة عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما ، قال قتادة : فقلنا فالأكل ؟ قال : ذاك شر وأخبث } رواه أحمد ومسلم والترمذي ) .

                                                                                                                                            3749 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقئ } رواه مسلم ) .

                                                                                                                                            3750 - ( وعن ابن عباس قال : { شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم . } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3751 - ( وعن الإمام علي رضي الله عنه أنه في رحبة الكوفة شرب وهو قائم ، قال : { إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت } . رواه أحمد والبخاري ) .

                                                                                                                                            3752 - ( وعن ابن عمر قال : { كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام } . ورواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            ظاهر النهي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن الشرب من قيام حرام ولا سيما بعد قوله : " فمن نسي فليستقئ " فإنه يدل على التشديد في المنع والمبالغة في التحريم ، ولكن حديث ابن عباس وحديث علي يدلان على جواز ذلك . وفي الباب أحاديث غير ما ذكره [ ص: 222 ] المصنف منها ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظ { لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء } ولأحمد من وجه آخر عن أبي هريرة { أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال : قه ، قال : لمه ، قال : أيسرك أن يشرب معك الهر ؟ قال : لا ، قال : قد شرب معك من هو شر منه الشيطان } وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه رضي الله عنهما وأبو زياد لا يعرف اسمه . وقد وثقه يحيى بن معين . ومنها عند مسلم عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما } قال المازري : اختلف الناس في هذا ، فذهب الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم ، فقال بعض شيوخنا : لعل النهي منصرف إلى من أتى أصحابه بماء فبادر بشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا . قال : وأيضا فإن الحديث تضمن المنع من الأكل قائما ، ولا خلاف في جواز الأكل قائما ، قال : والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز ، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل . قال : ويحمل الأمر بالقيء على أن الشرب قائما يحرك خلطا يكون القيء دواءه ، ويؤيده قول النخعي : إنما نهى عن ذلك لداء البطن .

                                                                                                                                            وقد تكلم عياض على أحاديث النهي وقال : إن مسلما أخرج حديث أبي سعيد وحديث أنس من طريق قتادة ، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث . قال : واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له .

                                                                                                                                            وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ، ولا يتحمل منه مثل هذه المخالفة غيره له ، والصحيح أنه موقوف . انتهى ملخصا . قال النووي ما ملخصه : هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة ، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها ولا وجه لإشاعة الغلطات بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط ، وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعف ، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه وشربه قائما لبيان الجواز .

                                                                                                                                            وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ ، وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا فإنه كان يفعل الشيء للبيان مرة أو مرات ويواظب على الأفضل ، والأمر بالاستقاء محمول على الاستحباب فيستحب لمن يشرب قائما أن يستقئ لهذا الحديث الصحيح ، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب يحمل على الاستحباب . وأما قول عياض : لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ ، وأشار به إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته ، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع من الاستحباب ، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف ، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوى والترهات .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ليس في كلام [ ص: 223 ] عياض التعرض للاستحباب أصلا ، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو في كلام المازري كما مضى . وأما تضعيف عياض للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه . قال : فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا فيجاب عنه بأنه صرح في نفس هذا الحديث بما يقتضي السماع فإنه قال : قلنا لأنس : " فالأكل . . . إلخ " وأما تضعيف حديث أبي سعيد بأن أبا عباس غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة لكن وثقه الطبري وابن حبان ، ودعواه اضطرابه مردودة ، فقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما رواه أحمد وابن حبان ، فالحديث بمجموع طرقه صحيح .

                                                                                                                                            قال النووي والعراقي في شرح الترمذي : أن قوله " فمن نسي " لا مفهوم له ، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى ، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا . قال القرطبي في المفهم : لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان القول به جاريا على أصول الظاهرية . وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم ، وتمسك من لم يقل بالتحريم بالأحاديث المذكورة في الباب .

                                                                                                                                            وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي . وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني . وعن أنس أخرجه البزار والأثرم . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه . وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في الأحكام . وعن أم سليم أخرجه ابن شاهين . وعن عبد الله بن السائب أخرجه ابن أبي حاتم ، وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري .

                                                                                                                                            وفي الموطأ أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما ، وكان سعد وعائشة لا يريان بذلك بأسا ، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين . وسلك العلماء في ذلك مسالك : أحدها الترجيح ، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي ، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال : حديث أنس يعني في النهي جيد الإسناد ، ولكن قد جاء عنه خلافه ، يعني في الجواز ، قال : ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى ; لأن الثبت قد يروي من هو دونه الشيء فيرجح عليه ، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر ، وسالم مقدم على نافع في التثبت ، وقدم شريك على الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث .

                                                                                                                                            ويروى عن أبي هريرة أنه قال : لا بأس بالشرب قائما ، قال : فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست بثابتة وإلا لما قال : لا بأس به ، قال : ويدل على وهانة أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب أن يستقئ . المسلك الثاني : دعوى النسخ وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز . وقد عكس ابن حزم [ ص: 224 ] فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل ، وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال .

                                                                                                                                            وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما تقدم ذكره في حديث الباب عن ابن عباس ، وإذا كان ذلك الآخر من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين . المسلك الثالث : الجمع بين الأخبار بضرب من التأويل . قال أبو الفرج الثقفي : المراد بالقيام هنا المشي ، يقال قمت في الأمر : إذا مشيت فيه ، وقمت في حاجتي : إذا سعيت فيها وقضيتها ، ومنه قوله تعالى: { إلا ما دمت عليه قائما } أي مواظبا بالمشي عليه . وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه ، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها ، وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين .

                                                                                                                                            قال الحافظ : وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض . وقد أشار الأثرم إلى ذلك آخرا . فقال : إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم ، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا ، فلما تعارضت الأخبار في ذلك جمعنا بينها بهذا . وقيل : إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به ، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق ، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما .

                                                                                                                                            قوله : ( شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم ) في رواية لابن ماجه من وجه آخر عن عاصم ، فذكرت ذلك لعكرمة فحلف إنه ما كان حينئذ إلا راكبا . وعند أبي داود من وجه آخر عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين } فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا ، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه ; لأن عمدة عكرمة في إنكاره كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك ، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك ، وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس ؟ قوله

                                                                                                                                            ( في رحبة الكوفة ) الرحبة بفتح الراء المهملة وفتح الموحدة : المكان المتسع ، والرحب : بسكون المهملة : المتسع أيضا . قال الجوهري : ومنه أرض رحبة : أي متسعة ، ورحبة المسجد بالتحريك : وهي ساحته . قال ابن التين : فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون ، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك وهذا هو الصحيح قوله : ( صنع كما صنعت ) أي من [ ص: 225 ] الشرب قائما ، وصرح به الإسماعيلي في روايته فقال : شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية