الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الحادية عشرة : اختلف العلماء فيمن قال لأمته : أنت علي كظهر أمي ، أو قال ذلك لأم ولده ، فقال بعض أهل العلم : لا يصح الظهار من المملوكة ، وهو مروي عن ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، وربيعة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد . وقال بعضهم : يصح الظهار من الأمة أم ولد كانت أو غيرها ، وهو مذهب مالك ، وهو مروي أيضا عن الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والحكم ، والثوري ، وقتادة ، وهو رواية عن أحمد ، وعن الحسن ، والأوزاعي : إن كان يطؤها فهو ظهار ، وإلا فلا . وعن عطاء : إن ظاهر من أمته ، فعليه نصف كفارة الظهار من الحرة .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج الذين قالوا : إن الأمة لا يصح الظهار منها ، بأدلة : منها أنهم زعموا أن قوله : يظاهرون من نسائهم ، يختص بالأزواج دون الإماء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها أن الظهار لفظ يتعلق به تحريم الزوجة ، فلا تدخل فيه الأمة قياسا على الطلاق .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فنقل حكمه وبقي محله ، ومحل الطلاق الأزواج دون الإماء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 200 ] ومنها أن تحريم الأمة تحريم لمباح من ماله ، فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله عند من يقول : بأن تحريم المال فيه كفارة يمين ، كما تقدم في سورة " الحج " .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم جاريته مارية ، فلم يلزمه ظهار بل كفارة يمين ; كما قال تعالى في تحريمه إياها : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم الآية [ 66 \ 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج القائلون بصحة الظهار من الأمة ، بدخولها في عموم قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ، قالوا : وإماؤهم من نسائهم ; لأن تمتعهم بإمائهم من تمتعهم بنسائهم ، قالوا : ولأن الأمة يباح وطؤها ، كالزوجة فصح الظهار منها كالزوجة ، قالوا : وقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - شرب العسل في القصة المشهورة ، لا في تحريم الجارية .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة الحسن والأوزاعي ، وحجة عطاء كلتاهما واضحة ، كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه : بصحة الظهار من الأمة ، وهي مسألة عسيرة علينا ; لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته ؟ ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : من نسائهم ; لأنه أراد من محللاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى فيه : أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد ، فصح في الأمة أصله الحلف بالله تعالى ، ا هـ منه ، بواسطة نقل القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : لا يبعد بمقتضى الصناعة الأصولية ، والمقرر في علوم القرآن : أن يكون هناك فرق بين تحريم الأمة وتحريم الزوجة .

                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح ذلك : أن قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، جاء في بعض الروايات الصحيحة في السنن وغيرها ، أنه نزل في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريته مارية أم إبراهيم ، وإن كان جاء في الروايات الثابتة في الصحيحين : أنه نزل في تحريمه العسل الذي كان شربه عند بعض نسائه ، وقصة ذلك مشهورة صحيحة ; لأن المقرر في علوم القرآن أنه إذا ثبت نزول الآية في شيء معين ، ثم ثبت بسند آخر صحيح أنها نزلت في شيء آخر معين غير [ ص: 201 ] الأول ، وجب حملها على أنها نزلت فيهما معا ، فيكون لنزولها سببان ، كنزول آية اللعان في عويمر وهلال معا .

                                                                                                                                                                                                                                      وبه تعلم أن ذلك يلزمه أن يقال : إن قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية نزل في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - العسل على نفسه ، وفي تحريمه جاريته ، وإذا علمت بذلك نزول قوله : لم تحرم ، في تحريم الجارية ، علمت أن القرآن دل على أن تحريم الجارية لا يحرمها ، ولا يكون ظهارا منها ، وأنه تلزم فيه كفارة يمين ; كما صح عن ابن عباس ومن وافقه . وقد قال ابن عباس : لما بين أن فيه كفارة يمين لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر عن تحريمه جاريته كفارة يمين ; لأن الله تعالى قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، بعد تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته المذكورة في قوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، ومن قال من أهل العلم : إن من حرم جاريته لا تلزمه كفارة يمين ، وإنما يلزمه الاستغفار فقط ، فقد احتج بقوله تعالى : والله غفور رحيم ، بعد قوله : لم تحرم ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم جاريته ، قال مع ذلك : " والله لا أعود إليها " ، وهذه اليمين هي التي نزل في شأنها : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، ولم تنزل في مطلق تحريم الجارية ، واليمين المذكورة مع التحريم في قصة الجارية ، قال في " نيل الأوطار " : رواها الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي المشهور ، لكنه أرسله ، اهـ . وكذلك رواه عنه ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير في " تفسيره " : إن الهيثم بن كليب رواه في مسنده بسند صحيح وساق السند المذكور عنه - رضي الله عنه - ، والمتن فيه التحريم واليمين كما ذكرنا ، وعلى ما ذكرنا من أن آية : لم تحرم ما أحل الله لك ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته ، فالفرق بين تحريم الجارية والزوجة ظاهر ; لأن آية لم تحرم دلت على أن تحريم الجارية لا يحرمها ولا يكون ظهارا ، وآية والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة الآية ، دلت على أن تحريم الزوجة تلزم فيه كفارة الظهار المنصوص عليه في " المجادلة " ; لأن معنى : يظاهرون من نسائهم على جميع القراءات هو أن يقول أحدهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، وهذا لا خلاف فيه . وقوله : أنت علي كظهر أمي ، معناه : أنت علي حرام ، كما تقدم إيضاحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فقد دلت آية " التحريم " على حكم تحريم الأمة ، وآية " المجادلة " على حكم تحريم الزوجة ، وهما حكمان متغايران ، [ ص: 202 ] كما ترى . ومعلوم أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يقل بالفرق بينهما ، بل قال : إن حكم تحريم الزوجة كحكم تحريم الجارية المنصوص في آية " التحريم " ، ونحن نقول : إن آية الظهار تدل بفحواها على أن تحريم الزوجة ظهار ; لأن " أنت علي كظهر أمي " ، و " أنت علي حرام " معناهما واحد ، كما لا يخفى . وعلى هذا الذي ذكرنا ، فلا يصح الظهار من الأمة ، وإنما يلزم في تحريمها بظهار ، أو بصريح التحريم كفارة يمين أو الاستغفار كما تقدم . وهذا أقرب لظاهر القرآن ، وإن كان كثير من العلماء على خلافه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن تحريم الرجل امرأته فيه للعلماء عشرون قولا ، وسنذكرها هنا باختصار ونبين ما يظهر لنا رجحانه بالدليل منها ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الأول : هو أن تحريم الرجل امرأته لغو باطل ، لا يترتب عليه شيء . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وبه قال مسروق ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعطاء ، والشعبي ، وداود ، وجميع أهل الظاهر ، وأكثر أصحاب الحديث ، وهو أحد قولي المالكية ، اختاره أصبغ بن الفرج . وفي الصحيح عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول : إذا حرم الرجل امرأته ، فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وصح عن مسروق أنه قال : ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد . وصح عن الشعبي في تحريم المرأة : لهو أهون علي من نعلي . وقال أبو سلمة : ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر . وقال الحجاج بن منهال : إن رجلا جعل امرأته عليه حراما ، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن ، فقال حميد : قال الله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [ 94 \ 7 - 8 ] ، وأنت رجل تلعب ، فاذهب فالعب ، ا هـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ 5 \ 87 ] ، وعموم قوله تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] ، وعموم قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا ، فهو رد " ، ومعلوم أن تحريم ما أحل الله ليس من أمرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 203 ] القول الثاني : أن التحريم ثلاث تطليقات ، قال في " إعلام الموقعين " : وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، والحسن البصري ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى . وقضى فيها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي ، وقال : والذي نفسي بيده ، لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك . وقال في " زاد المعاد " : وروي عن الحكم بن عتيبة ، ثم قال : قلت : الثابت عن زيد بن ثابت ، وابن عمر أن في ذلك كفارة يمين ، وذكر في " الزاد " أيضا : أن ابن حزم نقل عن علي الوقف في ذلك ، وحجة هذا القول بثلاث أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث ، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثالث : أنها حرام عليه بتحريمه إياها ، قال في " إعلام الموقعين " : وصح هذا أيضا عن أبي هريرة ، والحسن ، وخلاس بن عمرو ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط .

                                                                                                                                                                                                                                      وصح ذلك أيضا عن علي رضي الله عنه ، فإما أن يكون عنه روايتان ، وإما أن يكون أراد تحريم الثلاث ، وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ، ولم يتعرض لعدد الطلاق ، فحرمت عليه بمقتضى تحريمه .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الرابع : الوقف . قال في " إعلام الموقعين " : صح ذلك أيضا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وهو قول الشعبي ، وحجة هذا القول : أن التحريم ليس بطلاق ، وهو لا يملك تحريم الحلال ، إنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به ، وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة ، فاشتبه الأمر فيه فوجب الوقف للاشتباه .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الخامس : إن نوى به الطلاق فهو طلاق ، وإلا فهو يمين . قال في " الإعلام " : وهذا قول طاوس ، والزهري ، والشافعي ، ورواية عن الحسن ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكي هذا القول أيضا عن النخعي ، وإسحاق ، وابن مسعود ، وابن عمر . وحجة هذا القول : أن التحريم كناية في الطلاق ، فإن نواه به كان طلاقا ، وإن لم ينوه كان يمينا ; لقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، إلى قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم .

                                                                                                                                                                                                                                      القول السادس : أنه إن نوى به الثلاث فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن [ ص: 204 ] نوى يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا هو كذبة لا شيء فيها ، قاله سفيان ، وحكاه النخعي عن أصحابه ، وحجة هذا القول : أن اللفظ محتمل لما نواه من ذلك ، فيتبع نيته .

                                                                                                                                                                                                                                      القول السابع : مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها ، وهو قول الأوزاعي . وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثامن : مثل هذا أيضا ، إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم ، هكذا ذكر هذا القول في " إعلام الموقعين " ، ولم يعزه لأحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم النخعي .

                                                                                                                                                                                                                                      القول التاسع : أن فيه كفارة الظهار . قال في " إعلام الموقعين " : وصح ذلك عن ابن عباس أيضا ، وأبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وعثمان البتي ، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد . وحجة هذا القول : أن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا ، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا ، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار ، وهذا أقيس الأقوال وأفقهها . ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل ، وإنما ذلك إليه تعالى ، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال ، التي يترتب عليها التحريم والتحليل ، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى ، فإذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أو قال : أنت علي حرام ، فقد قال المنكر من القول والزور ، وقد كذب ، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ، ولا جعلها عليه حراما ، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين ، وهي كفارة الظهار .

                                                                                                                                                                                                                                      القول العاشر : أنه تطليقة واحدة ، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وحجة هذا القول : أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث ، بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة ، فحمل اللفظ عليها ; لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الحادي عشر : أنه ينوي فيما أراد من ذلك ، فيكون له نيته في أصل الطلاق وعدده ، وإن نوى تحريما بغير طلاق ، فيمين مكفرة . قال ابن القيم : وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة هذا القول : أن اللفظ صالح لذلك كله ، فلا يتعين واحد منها إلا بالنية ، فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ، ولا تحرم عليه في [ ص: 205 ] الموضعين ، ا هـ . وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في " نيل الأوطار " : وهو الذي حكاه عنه في " فتح الباري " ، بل حكاه عنه ابن القيم نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثاني عشر : أنه ينوي في أصل الطلاق وعدده ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، وإن لم ينو الطلاق فهو مؤول ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة هذا القول : احتمال اللفظ لما ذكره ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، لاقتضاء التحريم للبينونة ، وهي صغرى وكبرى ، والصغرى هي المتحققة ، فاعتبرت دون الكبرى . وعنه رواية أخرى : إن نوى الكذب دين ، ولم يقبل في الحكم بل كان مؤليا ، ولا يكون ظهارا عنده ، نواه أو لم ينوه ، ولو صرح به فقال : أعني بها الظهار ، لم يكن مظاهرا ، انتهى من " إعلام الموقعين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد أن ذكر كلام ابن القيم الذي ذكرناه آنفا ، إلى قوله : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، هكذا قال ابن القيم . وفي " الفتح " عن الحنفية : أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة ، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير مؤليا ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثالث عشر : أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : صح ذلك عن أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعائشة ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعكرمة ، وعطاء ، ومكحول ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، ونافع ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وخلق سواهم رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة هذا القول ظاهر القرآن العظيم ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن يتناوله يقينا ، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله ، اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن ابن القيم أراد بكلامه هذا أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، نازل في تحريم الحلال المذكور في قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، وما ذكره من [ ص: 206 ] شمول قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، لقوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، على سبيل اليقين . والجزم لا يخلو عندي من نظر ، لما قدمنا عن بعض أهل العلم من أن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم نازل في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود لما حرم على نفسه لا في أصل التحريم ، وقد أشرنا للروايات الدالة على ذلك في أول هذا المبحث .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الرابع عشر : أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة . قال ابن القيم : وصح ذلك أيضا عن ابن عباس ، وأبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة هذا القول : أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ، ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله ، وليس إلى العبد . وقول المنكر والزور وإن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه ، فغلظت كفارته بتحتم العتق ; كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين ، أو بإطعام ستين مسكينا .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الخامس عشر : أنه طلاق ، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها ، فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها . وإن كانت مدخولا بها ، فثلاث . وإن نوى أقل منها ، وهو إحدى الروايتين عن مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة هذا القول : أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يرتب عليه حكمه ، وغير المدخول بها تحرم بواحدة ، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد : ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها ، وهو مشهورها .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها ، اختاره عبد الملك في مبسوطه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنها واحدة بائنة مطلقا ، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أنه واحدة رجعية ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس : أنه ما نواه من ذلك مطلقا ، سواء قبل الدخول أو بعده ، وقد عرفت توجيه هذه الأقوال ، انتهى من " إعلام الموقعين " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : المعروف أن المعتمد من هذه الأقوال عند المالكية : اثنان ، وهما القول بالثلاث وبالواحدة البائنة ، وقد جرى العمل في مدينة فاس بلزوم الواحدة البائنة في التحريم . قال ناظم عمل فاس :


                                                                                                                                                                                                                                      وطلقة بائنة في التحريم وحلف به لعرف الإقليم



                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا ، وإن نوى التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة ، وإن نوى الطلاق كان طلاقا ، وكان ما نواه . وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه صريح في إيجاب الكفارة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : لا يتعلق به شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة ، وفي حق الحرة كناية ، قالوا : إن أصل الآية إنما ورد في الأمة ، قالوا : فلو قال : أنت علي حرام ، وقال : أردت بها الظهار والطلاق . فقال ابن الحداد : يقال له عين أحد الأمرين ; لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا . وقيل : يلزمه ما بدأ به منهما ، قالوا : ولو ادعى رجل على رجل حقا أنكره ، فقال : الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك ما لي عليك شيء ، فقال : الحل علي حرام والنية في ذلك نيتك ما لك عندي شيء ، كانت النية نية الحالف لا المحلف ; لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع ، ثم قال : وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه ، وإن لم ينوه إلا أن ينوي الطلاق أو اليمين ، فيلزمه ما نواه ، وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه ، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار ، فيلزمه ما نواه .

                                                                                                                                                                                                                                      وعنه رواية ثالثة : أنه ظهار بكل حال ، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا ; كما لو نوى الطلاق أو اليمين ، بقوله : أنت علي كظهر أمي ، فإن اللفظين صريحان في الظهار ، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله : أعني به الطلاق ، فهل يكون طلاقا أو ظهارا ؟ على روايتين ، إحداهما : يكون ظهارا ; كما لو قال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق أو التحريم ، إذ التحريم صريح في الظهار . والثانية : أنه طلاق ; لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله ، وغايته أنه كناية فيه ، فعلى هذه الرواية ، إن قال : أعني به طلاقا طلقت واحدة ، وإن قال : أعني به الطلاق ، فهل تطلق ثلاثا أو واحدة ؟ وعلى روايتين مأخذهما هل اللام على الجنس أو العموم ، وهذا تحرير مذهبه وتقريره ، وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله ، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ، ولو نوى به الطلاق ، وإن حلف به كان يمينا مكفرة ، وهذا اختيار ابن تيمية ، وعليه يدل النص والقياس ، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا ، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة ، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحج والعتق والصدقة ، وهذا [ ص: 208 ] محض القياس والفقه ، ألا ترى أنه إذا قال : لله علي أن أعتق ، أو أحج ، أو أصوم ، لزمه . ولو قال : إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين ، فهو يمين . وكذلك لو قال : هو يهودي أو نصراني كفر بذلك ، ولو قال : إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينا . وطرد هذا بل نظيره من كل وجه ، أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي كان ظهارا ، فلو قال : إن فعلت كذا ، فأنت علي كظهر أمي كان يمينا ، وطرد هذا أيضا إذا قال : أنت طالق ، كان طلاقا ، ولو قال : إن فعلت كذا فأنت طالق كان يمينا ، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان ، وبالله التوفيق . انتهى كلام ابن القيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي مع كثرتها وانتشارها : أن التحريم ظهار ، سواء كان منجزا أو معلقا ; لأن المعلق على شرط من طلاق أو ظهار يجب بوجود الشرط المعلق عليه ، ولا ينصرف إلى اليمين المكفرة على الأظهر عندي ، وهو قول أكثر أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك في " الموطإ " : فقال القاسم بن محمد : إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها ، فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها ألا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : وحدثني عن مالك : أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار ، عن رجل تظاهر من امرأة قبل أن ينكحها ، فقالا : إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعروف عن جماهير أهل العلم أن الطلاق المعلق يقع بوقوع المعلق عليه ، وكذلك الظهار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الأمة فالأظهر أن في تحريمها كفارة اليمين أو الاستغفار ، كما دلت عليه آية سورة " التحريم " كما تقدم إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية