الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار وهؤلاء هم القسم الثالث من أقسام الكافرين في الآيات ، فالأول من يتوبون توبة مقبولة من الكفر ويعملون الصالحات فيستحقون المغفرة والرحمة . والثاني من يتوبون توبة غير مقبولة إما لفسادها في نفسها وإما لأنها توبة عن بعض أعمال الكفر مع البقاء عليه وقد تقدم حكمها ، أما هؤلاء الذين يقيمون على الكفر وأعماله حتى يدركهم الموت على ذلك فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في الدنيا ; لأن الكفر يحبط كل عمل وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 : 23 ] فهو لا يفيد في نجاتهم من العذاب الآتي ذكره في الآية ، لأن من لم ترتق روحه في الدنيا إلى درجة الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر فإنها لا ترتقي في الآخرة من الهاوية التي تسمى النار والجحيم إلى درجة من الدرجات العلا التي تكون في الجنة ولو افتدى به في الآخرة [ ص: 304 ] على فرض أن يملكه بأن أراد أن يجعله جزاء نجاته والعفو عنه كما يفعل الناس مع الحكام الظالمين فإنه لا يقبل منه أيضا . قال - تعالى - في وعيد المنافقين : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير [ 57 : 15 ] بل لا تقبل الفدية من غيرهم أيضا ، كما في آيات أخرى عامة ، وليست علة ذلك ما قالوه من كون الله - تعالى - غنيا عن الذهب وغيره مما يفتدى به ، فإنه - تعالى - غني أيضا عن إيمان الناس وأعمالهم ، وإنما علته أنه - تعالى - لم يجعل أمر نجاة الناس من عذاب الآخرة ، ولا أمر فوزهم بنعيمها مما يكون بالأمور الخارجية كمال يبذل وعظيم ينفع ، بل جعل ذلك أمرا متعلقا بأمر داخلي ، متعلقا بجوهر النفس ، فمن زكاها بالإيمان مع العمل الصالح أفلح ومن دساها بالكفر والأعمال السيئة خاب وخسر - راجع تفسير واتقوا يوما [ 2 : 48 ، 123 ] إلخ - وتفسير يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم [ 2 : 254 ] إلخ . وقال الأستاذ الإمام في الآية : الكلام في هذا الجزاء من التمثيل لأنه ليس هناك حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه ، لأن الأشقياء لا نصير لهم فينفق عليهم ، والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم ، والمراد أنه لا طريق للافتداء لو أريد . ليس عندنا عنه غير هذا .

                          أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم أو إيصال الخير إليهم ، أي لا يجدون لهم نصيرا ما ، كما تفيده ( من ) الدالة على استغراق النفي ويسمونها زائدة ; لأنها لا متعلق لها في اصطلاح النحاة لا لأنها لا معنى لها في الكلام .

                          ومن مباحث اللفظ مع المعنى في الآية : أنه قال في هذه الآية : فلن يقبل وفي الآية التي قبلها : لن تقبل بغير فاء ، وقد بين صاحب الكشاف النكتة في ذلك وتبعه غيره فيها ، قال : " قد أوذن بالفاء لأن الكلام بني على الشرط والجزاء وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب ، كما تقول : الذي جاءني له درهم ، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم " أي فإنه يفيد الدرهم جزاء لمجيئه ، والنكتة في غاية الجلاء والظهور . فإن عدم قبول توبة أولئك ليس مسببا عن كونهم كفروا ، ولا عن كونهم ازدادوا كفرا ; لأن الكافر ومن ازداد كفرا تقبل توبتهما إذا صحت ، وقد علم سببه مما تقدم .

                          ومنها أنهم اختلفوا في موقع الواو من قوله : ولو افتدى به على ظهوره فيما جرينا عليه من تفسير الآية ، ويقرب منه قول الزجاج النحوي : إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه . قال الرازي : وهذا اختيار ابن الأنباري . قال : وهذا أوكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي [ ص: 305 ] القبول من جميع الوجوه .

                          أقول : وما قدرناه أظهر وبالنظم أليق . قال الرازي بعد إيراد رأي الزجاج : ( الثاني ) الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال ; وذلك لأن قوله : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية . أقول : ولو قال التخصيص بعد التعميم لكان أظهر ، لأن ذكر واحد مما يتناوله أو يحتمله المجمل ليس تفصيلا له . ثم قال : ( الثالث ) وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة ، إلا أنه قد يقبل الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية ، فحكم الله - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لما لم يكن مقبولا بهذا الطريق فبألا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أولى . اهـ . وفي الكشاف : هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله - وأورد لذلك شواهد وأمثلة ثم قال - وأن يراد فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به ولو افتدى به أيضا لم يقبل . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية