الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                2057 حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وحامد بن عمر البكراوي ومحمد بن عبد الأعلى القيسي كلهم عن المعتمر واللفظ لابن معاذ حدثنا المعتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو عثمان أنه حدثه عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس أو كما قال وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة وأبو بكر بثلاثة قال فهو وأنا وأبي وأمي ولا أدري هل قال وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر قال وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك أو قالت ضيفك قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليهم فغلبوهم قال فذهبت أنا فاختبأت وقال يا غنثر فجدع وسب وقال كلوا لا هنيئا وقال والله لا أطعمه أبدا قال فايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها قال حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر قال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار قال فأكل منها أبو بكر وقال إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده قال وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون أو كما قال

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ( فليذهب بثلاثة ) ووقع في صحيح البخاري : ( فليذهب بثلاث ) . قال القاضي : هذا الذي ذكره البخاري هو الصواب ، وهو الموافق لسياق باقي الحديث . قلت : وللذي في مسلم أيضا وجه ، وهو محمول على موافقة البخاري وتقديره ، فليذهب بمن يتم ثلاثة ، أو بتمام ثلاثة ، كما قال الله تعالى : وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام أي في تمام أربعة ، وسبق في كتاب الجنائز إيضاح هذا ، وذكر [ ص: 214 ] نظائره . وفي هذا الحديث فضيلة الإيثار والمواساة ، وأنه إذا حضر ضيفان كثيرون فينبغي للجماعة أن يتوزعوهم ، ويأخذ كل واحد منهم من يحتمله ، وأنه ينبغي لكبير القوم أن يأمر أصحابه بذلك ، ويأخذ هو من يمكنه .

                                                                                                                قوله : ( وإن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة ) هذا مبين لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخذ بأفضل الأمور ، والسبق إلى السخاء والجود ، فإن عيال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قريبا من عدد ضيفانه هذه الليلة ، فأتى بنصف طعامه أو نحوه ، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بثلث طعامه أو أكثر ، وأتى الباقون بدون ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لبث حتى صليت العشاء ، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء ) قوله ( نعس ) بفتح العين ، وفي هذا جواز ذهاب من عنده ضيفان إلى أشغاله ومصالحه إذا كان له من يقوم بأمورهم ، ويسد مسده كما كان لأبي بكر هنا عبد الرحمن رضي الله عنهما ، وفيه ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحب للنبي صلى الله عليه وسلم والانقطاع إليه ، وإيثاره في ليله ونهاره على الأهل والأولاد والضيفان وغيرهم .

                                                                                                                قوله في الأضياف : ( إنهم امتنعوا من الأكل حتى يحضر أبو بكر رضي الله عنه ) هذا فعلوه أدبا ورفقا بأبي بكر فيما ظنوه ؛ لأنهم ظنوا أنه لا يحصل له عشاء من عشائهم .

                                                                                                                قال العلماء : والصواب للضيف أن لا يمتنع مما أراده المضيف من تعجيل طعام وتكثيره وغير ذلك من أموره ، إلا أن يعلم أنه يتكلف ما يشق عليه حياء منه فيمنعه برفق ، ومتى شك لم يعترض عليه ، ولم يمتنع ، فقد يكون للمضيف عذر أو غرض في ذلك لا يمكنه إظهاره ، فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف كما جرى في قصة أبي بكر رضي الله عنه .

                                                                                                                [ ص: 215 ] قوله ( عن عبد الرحمن : فذهبت فاختبأت ، وقال : يا غنثر ، فجدع وسب ) أما اختباؤه فخوفا من خصام أبيه له ، وشتمه إياه . وقوله : ( فجدع ) أي دعا بالجدع ، وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء ، والسب والشتم . وقوله : ( يا غنثر ) بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة لغتان ، هذه هي الرواية المشهورة في ضبطه . قالوا : وهو الثقيل الوخم ، وقيل : هو الجاهل مأخوذ من الغثارة بفتح الغين المعجمة ، وهي الجهل ، والنون فيه زائدة ، وقيل : هو السفيه ، وقيل : هو ذباب أزرق ، وقيل : هو اللئيم مأخوذ من الغثر ، وهو اللؤم . وحكى القاضي عن بعض الشيوخ أنه قال : إنما هو ( غنثر ) بفتح الغين والثاء ، ورواه الخطابي وطائفة ( عنتر ) بعين مهملة وتاء مثناة مفتوحتين . قالوا : وهو الذباب ، وقيل : هو الأزرق منه ، شبهه به تحقيرا له قوله : ( كلوا لا هنيئا ) إنما قاله لما حصل له من الحرج والغيظ بتركهم العشاء بسببه ، وقيل : إنه ليس بدعاء إنما أخبر أي لم تتهنئوا به في وقته .

                                                                                                                قوله : ( والله لا أطعمه أبدا ) وذكر في الرواية الأخرى في الأضياف قالوا : والله لا نطعمه حتى تطعمه ، ثم أكل وأكلوا .

                                                                                                                فيه أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فعل ذلك وكفر عن يمينه ، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة . وفيه حمل المضيف المشقة على نفسه في إكرام ضيفانه ، وإذا تعارض حنثه وحنثهم حنث نفسه لأن حقهم عليه آكد . وهذا الحديث الأول مختصر توضحه الرواية الثانية ، وتبين ما حذف منه ، وما هو مقدم أو مؤخر .

                                                                                                                قوله : ( ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها ، وأنهم أكلوا منها حتى شبعوا ، وصارت بعد ذلك أكثر مما كانت بثلاث مرار ، ثم حملوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منها الخلق الكثير ) . فقوله : ( إلا ربا من أسفلها أكثر ) ضبطوه بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة . هذا الحديث فيه [ ص: 216 ] كرامة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وفيه إثبات كرامات الأولياء ، وهو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة .

                                                                                                                قوله : ( فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر ) وقوله : ( لهي الآن أكثر منها ) ضبطوهما أيضا بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة .

                                                                                                                قولها : ( لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها ) قال أهل اللغة : قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه قيل : إنما قيل ذلك لأن عينه تقر لبلوغه أمنيته ، فلا يستشرف لشيء ، فيكون مأخوذا من القرار . وقيل : مأخوذ من القر بالضم ، وهو البرد ، أي عينه باردة لسرورها وعدم مقلقها . قال الأصمعي وغيره : أقر الله عينه أي أبرد دمعته ؛ لأن دمعة الفرح باردة ، ودمعة الحزن حارة ، ولهذا يقال في ضده : أسخن الله عينه . قال صاحب المطالع : قال الداودي : أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقسمت به . ولفظة ( لا ) في قولها : ( لا وقرة عيني ) زائدة ، ولها نظائر مشهورة . ويحتمل أنها نافية ، وفيه محذوف أي لا شيء غير ما أقول ، وهو وقرة عيني لهي أكثر منها .

                                                                                                                [ ص: 217 ] قوله : ( يا أخت بني فراس ) هذا خطاب من أبي بكر لامرأته أم رومان ، ومعناه يا من هي من بني فراس . قال القاضي : فراس هو ابن غنم بن مالك بن كنانة ، ولا خلاف في نسب أم رومان إلى غنم بن مالك ، واختلفوا في كيفية انتسابها إلى غنم اختلافا كثيرا ، واختلفوا هل هي من بني فراس بن غنم أم من بني الحارث بن غنم ؟ وهذا الحديث الصحيح كونها من بني فراس بن غنم .

                                                                                                                قوله : ( فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس ) هكذا هو في معظم النسخ : ( فعرفنا ) بالعين وتشديد الراء أي جعلنا عرفاء . وفي كثير من النسخ : ( ففرقنا ) بالفاء المكررة في أوله وبقاف من التفريق ، أي جعل كل رجل من الاثني عشر مع فرقة ، فهما صحيحان ، ولم يذكر القاضي هنا غير الأول .

                                                                                                                وفي هذا الحديث دليل لجواز تفريق العرفاء على العساكر ونحوها . وفي سنن أبي داود ( العرافة حق ) لما فيه من مصلحة الناس ، وليتيسر ضبط الجيوش ونحوها على الإمام باتخاذ العرفاء . وأما الحديث الآخر ( العرفاء في النار ) فمحمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم ، المرتكبين فيها ما لا يجوز كما هو معتاد لكثير منهم .

                                                                                                                قوله : ( فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل واحد منهم أناس ) هكذا هو في معظم النسخ ، وفي نادر منها ( اثني عشر ) وكلاهما صحيح ، والأول جار على لغة من جعل المثنى بالألف في الرفع والنصب والجر ، وهي لغة أربع قبائل من العرب ، ومنها قوله تعالى إن هذان لساحران وغير ذلك ، وقد سبقت المسألة مرات .




                                                                                                                الخدمات العلمية