الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

ظاهرة العولمة (رؤية نقدية)

الدكتور / بركات محمد مراد

من ظواهر العولمة

نستطيع إذن أن نحدد ملامح الوضع العالمي الراهن في ثلاث ظواهر، الأولى: بروز النظام الرأسمالي كقوة جبارة، وانفراده بقيادة العالم، لا سيما مع تفكك المنظومة الاشتراكية .. الثانية: قيام ثورة علمية تكنولوجية تكاد تحقق نقلة معرفية وإنتاجية جديدة.. الثالثة: هـيمنة الولايات المتحدة على وسائط نقل المعرفة وسعيها لتنميط العالم، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، من أجل إحكام الهيمنة.

وهي ظواهر متداخلة، فانفراد النظام الرأسمالي بقيادة العالم، أتاح الفرصة للحديث عن نموذج واحد مؤهل لقيادة العالم، وتعميم تجربته وثقافته على العالم، ولقيت أطروحات أحادية الجانب مثل نبوءة « فرنسيس فوكوياما » حول نهاية التاريخ «End of History» رواجا منقطع النظير، عندما كتبها صيف عام 1989م، كذلك انتعش مسلسل النهايات: نهاية الدولة، نهاية الوطنية، نهاية الأيديولوجيا، نهاية التاريخ.

لقد أدى تضافر العوامل السالفة الذكر إلى انطلاق مسلسل العولمة باعتبارها ظاهرة لمرحلة متقدمة من تدويل الإنتاج [ ص: 115 ] والمشروعات، والمعلوماتية والتكنولوجيا المتطورة، وفتحت الأسواق مشرعة أمام حركة التبادل التجارية والعلمية . [1]

على أن الأمر لم يتوقف عند تدويل العلم والتكنولوجيا، بل إن مشكلات كبرى، كتعاظم النمو السكاني، ومشكلة التلوث البيئي، وانعدام المساواة الاقتصادية، وتباين توزيع الفرص، ومشكلات التخلف والتبعية، حتى هـذه يتم تدويلها وعولمتها، ولا تتوقف عند محطة واحدة من العالم، وهو ما عقد من إمكانية التوصل إلى حلول لها، رغم الاجتماعات والمؤتمرات التي تعقد على مستويات عالمية من أجل إيجاد منهجية موحدة للتعامل مع هـذه المشكلات، على وزن مؤتمر القاهرة حول مشكلة السكان، أو مؤتمر كوبنهاجن حول المشكلات الاجتماعية، والتي انتهت بفشل ذريع على أرض الواقع، فلا تزال أعداد العاطلين عن العمل تتضاعف . [2] [ ص: 116 ]

لقد انتهت محاولات تدويل الحلول بالفشل الذريع، بينما الأزمات دولت وأصبحت على مستوى عالمي [3] .. وقد وجدنا بعض مشكلات الدول الصناعية قد انتقلت إلى بلادنا العربية والإسلامية رغم أنها مشكلات صناعية، ومن المفترض أن نكون في منأى عنها، ولكن المشكلات دولت، وبدأت تعصف بكل الدول المتأثرة برياح العولمة.

أضف إلى ذلك أن العولمة، كظاهرة في حد ذاتها، عملية مؤداها تحطيم قدرات العالم الثالث ، خاصة العالم العربي والإسلامي، على النمو والإنتاج، مضيفة إلى فقره فقرا، وإلى ضعفه ضعفا، لتتوالد الأزمات في أرض مهدت لذلك. ويدعم هـذا الرأي المفكر الفرنسي «جورج لابيكا» [4] الذي لا يرى في العولمة سوى حركة تدعمها الولايات المتحدة و الشركات المتعددة الجنسيات، هـدفها سحق مواطني العالم بأسره، وخلق نسخ مكررة [ ص: 117 ] واستهلاكية ذات نمط استهلاكي عال يغذي الحركة الرأسمالية الوحشية، وفي الـوقـت نفـسه تسعى الحركة إلى تهميش كل مـن لا يستطيع أن يتماشى مع النظام والخضوع له.

والنتيجة أن عدد المهمشين سوف يزداد بالتدريج وبشكل متسارع، حيث تزيد الرأسمالية من قدرتها على التخلص من أعداد كبيرة من البشر كل عام بإلقائهم في سلة مهملات البطالة. وقد تضمن تقرير التنمية البشرية لعام 1999م [5] والصادر بتكليف من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أرقاما تشير إلى الآثار المترتبة على العولمة التي توجهها فلسفة الربح السريع والهيمنة الشاملة، فخمس سكان العالم ممن يعيشون في أعلى البلدان دخلا يحصلون على 86% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، و74% من خطوط الهاتف. أما خمس السكان ممن يعيشون في القاع، في أشد البلدان فقرا، فإنهم يحصلون على حوالي 1% من كل فئة. وكما يخلص التقرير، فإنه «في عالم العولمة، الذي يتسم بانكماش الزمن وانكماش المكان واختفاء الحدود، تنتشر المساوئ العالمية على نطاق غير مسبوق وبسرعة غير مسبوقة» . [6] [ ص: 118 ]

وحسب المنظور القريب، لا يتوفر بين أيدينا أي علاج سحري للمشكلات التي نواجهها في هـذا العالم المفتوح، ولا تتضمن مناهجنا التعليمية أية إجابات نموذجية لأسئلة العصر الراهنة. بمعنى أننا لم نتعلم، وليس في خططنا المستقبلية حتى هـذه اللحظة ورغم مرارتها، أن نتعلم أو نتدارس: كيف نواجه التحديات القادمة، أو كيف نواجه الشك والتعقيد العالمي؟ وكيف يجب أن تكون العلاقة بين المخزون المعرفي، ومتطلبات العصر المتباينة؟ وما هـي الخيارات المفترضة والمساحات المفتوحة أمامنا؟ ومن أين تبدأ الحركة نحو المستقبل؟

ولذلك يقول الباحث « أحمد شهاب » [7] :«إن ما نمتلكه من مناهج تعليمية وتربوية لا تمنحنا الكثير من الخبرة والقدرة على التعامل مع حركة التغيير الاجتماعي المتسارع، والذي يتجاوز حركة الأجيال، بما يخلق دائما تناقضات بين الأصالة والمعاصرة، وهي أحد أهم بؤر التوتر الاجتماعي. وهذه العدة الوراثية لا تؤهلنا لمجابهة المتغيرات العالمية، وهي وإن كانت تغييرات وتحديات علمية واجتماعية، إلا أن التخلف عن مواكبتها يحولها إلى مشكلات [ ص: 119 ] بالغة التعقيد. هـكذا تتعولم الأزمات بصورة تتعدى عولمة المعرفة وعولمة الخطط والحلول الناجحة».

وفي الحقيقة، تعتبر الثورة الصناعية الثالثة من المصادر الرئيسة للتغيير والتحول الذي شهده ويشهده العالم في الوقت الراهن، وتستند هـذه الثورة إلى إنتاج العقل البشري المتدفق واللانهائي من الأفكار والمعلومات والمعرفة المكثفة. وتتمثل أبرز مظاهرها في التقدم التكنولوجي الهائل، وبخاصة في مجالات الاتصال والمعلومات والفضاء والحاسب الآلي بأجياله المختلفة والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الـوراثـيـة. وهكـذا فإن هـذه الثـورة تمثل حجر الزاوية فيما يعرف بـ «مجمع المعلومات» الذي يجسد العديد من مظاهر «العولمة» . [8]

ولا شك في أن الثورة الصناعية الثالثة وما يرتبط بها من تحولات وتطورات إنما تمثل عنصرا هـاما لإعادة تعريف عناصر القوة والتأثير، سواء بالنسبة للدول أو بالنسبة للقوى والكيانات الأخرى [ ص: 120 ] من غير الدول، فضلا عن إعادة تعريف بعض المفاهيم الرئيسة مثل: السيادة والأمن والحدود الدولية...إلخ، ونظرا لأن هـذه الدول الصناعية المتقدمة والشركات العالمية العابرة لحدود الدول هـي التي تتحكم بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة في مسارات هـذه الثورة واتجاهاتها، فالمؤكد أنها أسهمت، وتسهم في تعميق الهوة بين الشمال والجنوب، وبالتالي زيادة تهميش معظم دول الجنوب، وبخاصة في ظل ضعف قدرات وإمكانيات هـذه الدول على استيعاب هـذه الثورة أو الاستفادة منها أو التكيف مع مخرجاتها . [9]

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الثورة الصناعية الثالثة قد أدت، وتؤدي إلى إعادة تشكيل خريطة العلاقات والتوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس على صعيد العلاقات بين الدول فحسب، ولكن على صعيد الدول ذاتها أيضا . [10] [ ص: 121 ]

وفي إطار التحولات والتغيرات السابقة بدأت تبرز ملامح ظاهرة العولمة، سواء في مجال الإعلام والمعلومات والاتصالات، أو في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبشيء من التفصيل يمكن القول: بأن أهم مظاهر العولمة في مجالات الإعلام والمعلومات والاتصالات تتمثل في الثورة الهائلة التي حدثت في هـذه المجالات خلال السنوات الأخيرة والتي أدت إلى كثافة التدفق الإعلامي والمعلوماتي عبر حدود الدول، والذي لم يعد بمقدور أية دولة في العالم أن تمنعه.

ومن المعروف أن هـناك دولا وشركات إعلامية ضخمة وشبكات معلوماتية عملاقة تقف خلف عملية التدفق الإعلامي هـذه. وتشير دراسة في هـذا المقام إلى دور شبكة الـ (C.N.N) التي اعتبرها الدكتور بطرس غالي ، الأمين العام للأمم المتحدة السابق، بمثابة العضو السادس عشر في مجلس الأمن. كما تشير إلى دور شبكة الإنترنت التي تضمن إمكانية هـائلة لإجراء الاتصالات والحوارات وتبادل المعلومـات...إلخ، عبـر العـالم.

وجديـر بالذكـر أن ثـورة المعلومات والاتصـالات قـد أعـادت تعـريـف مفهـوم القـوة، حيـث أصبح امتلاك المعلومات وامتلاك التقنيات والأساليب الملائمة للتعامل معها بفاعلية، أصبح يمثل [ ص: 122 ] عنصرا هـاما للقوة والتأثير سواء على مستوى الدول أو على مستوى الكيانات الأخرى من غير الدول . [11]

وتتمثل أبرز مظاهر العولمة في مجالات الاقتصاد والمال في زيادة حركة تدفق السلع والخدمات ورءوس الأموال والتكنولوجيا بين الدول، وتصاعد دور الشركات متعددة الجنسيات في توجيه مسارات الاقتصاد العالمي، وبخاصة في ظل اتجاه بعض الشركات نحو الاندماج والتكتل لخلق كيانات أكبر، وهو ما أدى إلى عولمة عمليات الإنتاج والتسويق بالنسبة للعديد من الصناعات الحديثة.

ومن مظاهر العولمة أيضا، اتساع نطاق الثورة الـمالية العالـمية وما ارتبط بها من كثافة وسرعة في التدفقات المالية عبر حدود الدول، وبخـاصة في ظل زيادة استخدام ما يعـرف بـ « النقـود الإلكترونيـة » في التعاملات المالية. وقد جاءت أزمة أسواق المال الآسيوية في عام 1997م وما ترتب عليها من تأثيرات سلبية مباشرة وغير مباشرة على الأوضاع المالية والاقتصادية في عديد من دول العالم، جاءت هـذه الأزمة لتعكس واقع ظاهرة العولمة على الصعيد المالي. [ ص: 123 ]

كما أن تنامي دور مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، والتكتلات الاقتصادية في الاقتصاد العالمي، وتسارع عمليات تحرير التجارة العالمية في ظل اتفاقية الجات ، كل ذلك وغيره يسهم في تكريس ظاهرة العولمة على الصعيد الاقتصادي . [12]

ومن هـنا لم يكن غريبا أن نجد مؤلفي كتاب «فخ العولمة» [13] يؤكدان على أن هـذه الرأسمالية التي تعتقد بأنها حققت انتصارا رهيبا، إنما هـي في طريقها لهدم الأساس الذي يضمن وجودها، وهو ما يعني به الـمؤلفان انهيار الدولة الـمتماسكة والاستقرار الديمقراطي.. ويدعو بعضهم إلى الامتداد بالنموذج الأمريكي ردا على هـذا الانهيار.. كما يشككا أيضا في النموذج الرأسمالي الذي تتخذ فيه الجريـمة أبعادا غير محتملة وتنتشر كالوباء.

أما في المجالات الاجتماعية والثقافية، فإن مظاهر العولمة تتجلى في انتشار بعض أنماط القيم والسلوكيات الغربية بصفة عامة [ ص: 124 ] والأمريكية بصفة خاصة، وبالذات فيما يتعلق بالمأكل والملبس والترفيه...إلخ على نطاق عالمي واسع.. وقد أثيرت في هـذا الإطار أطروحات عديدة، مثل أطروحة « الغزو الثقافي » و« الثقافة العالـمية »، وهناك جدل واسع حول الأطروحتين، وبخاصة في الدول غير الغربية حيث تتعدد الرؤى والتصورات والمواقف بخصوصهما.

ولكن بغض النظر عن كل ذلك، فالمؤكد أن هـناك أنماطا من القيم والسلوكيات الغربية التي تزداد انتشارا خارج الدوائر الثقافية والحضارية التي أفرزتها، خاصة وأن الثورة الهائلة في مجالات الاتصال والإعلام، والتي تتحكم فيها دول وشبكات وشركات غربية، تساعد على ذلك.

وقد أسهمت ظاهرة العولمة على الصعيد الثقافي، إلى جانب عوامل ومتغيرات أخرى، في إحياء الانتماءات الأولية والتحتية لبعض القوى والجماعات في العديد من دول الجنوب، خاصة في العالمين العربي والإسلامي.

فبعض الجماعات أصبحت أكثر توجسا وخشية على هـويتها وخصوصيتها الثقافية والحضارية تـحت ضغط عملية العولمة [ ص: 125 ] الثقافية، مـما جعلها أكثر تشبثا بهوياتها الذاتية . [14]

وعلى الرغم من أن هـذه المعضلة لها جذورها في خصوصية التركيب الاجتماعي للدول المعنية، وأزمة بناء مشروع الدول الوطنية الحديثة فيها، وإخفاق نظمها السياسية في حل مشكلات الاندماج السياسي والاجتماعي، فإن ظاهرة العولمة الثقافية أضفت أبعادا جديدة على تلك المعضلة.

ومن هـنا لم يكن غريبا أن نجد الدكتور حسن حنفي ، حين يتناول بالدراسة مفهوم العولمة يـؤكد على أنها ليست ظاهرة فقهية تختلف من حولها الآراء، بل هـي مسألة صراع ومقاومة دفاعا عن الاستقلال ضد التبعية، وأنها ليست بالجديدة، بل قديمة قدم التاريخ، وأنها شكل من أشكـال الاستعمار الـجديد، وهذا أيضا ما يشاركه به محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز وكثيرون . [15]

كما يؤكد الدكتور حسن حنفي في مؤلفه عن العولمة [16] على [ ص: 126 ] رغبة الشمال في السيطرة على الجنوب، موضحا أن العولمة هـي إحدى مراحل النمو الرأسمالي، وأنها على الضد من الإرادة الوطنية للدولة الوطنية في العالم الثالث.. وفي النتيجة، هـي الماركة المسجلة والاسم الحركي للأمركة ، التي هـي التعبير عن مركزية غربية دفينة في الهيمنة على العالم.

ومن هـنـا فالعولـمة في نظـره على الضـد من الدولة الوطـنيـة، وما دعوات الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والأقليات وحرية المرأة و«دعوى» حق التعبير إلا أحصنة طروادة جديدة، تهدف إلى دك حصون الدولة الوطنية وتهديمها، فهي كلمات حق يراد بها باطل، وشعارات تخفي أغراضا بعيدة، ليس من بينها مصلحة الشعوب المغلوبة على أمرها، مثل شعوب العالمين العربي والإسلامي.

ولذلك سنجد أن الحل في نظره يتمثل على صعيدين لمواجهة العولمة المتوحشة، على صعيد عالمي من خلال السعي المشترك إلى تكوين قطب ثان خارج المركز الغربي، وعلى صعيد وطني من خلال التأكيد على أهمية المسألة الثقافية العربية ودورها في حماية الأمة، ومن خلال إبداع مفاهيم جديدة من داخلنا، لا تستهلك المفاهيم الغربية ولا تعيد إنتاجها. [ ص: 127 ]

أما الدكتور العظم فهو في المقابل يسعى إلى تطوير مدخل ثقافي إلى فهم العولمة، لكنه لا يفلح في ذلك عندما يخلط بين العالمية الثقافية كما تجسدها كتابات إدوارد سعيد «الاستشراق» وفرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» وصموئيل هـنتغتون «صراع الحضارات» وبين العولمة. ويظهر هـذا أيضا بمثابة نتيجة، فقد صرح العظم للمجلة اللبنانية اليسارية بأنه لا يفهم العولمة، لكنه عاد ليدبج لنا خطابا مطولا عن العولمة يستعير معظم دوافع التعبير عن نفسه من لغة نضالية أيديولوجية ، ومن ماركسية هـرمة وشائخة، على حد تعبير الباحث علي حرب . [17]

ويقوم العظم باستدعاء الفيض الكبير من الخطاب الماركسي الدارج والممتد على طول القرن التاسع عشر والعشرين في سبيل فهم العولمة، وذلك بدون الرجوع إلى الكتابات الحديثة عن العولمة، باستثناء استعراضه السريع وتهجمه على أفكار بعض المثقفين العرب وسخريته منهم، وهو بهذا يثبت لنا من جديد أن قطاره يأبى إلا السير على قضيب واحد، ويثبت اتهام الدكتور حسن حنفي له بأنه يتجاهل النقد المضاد للعولمة. [ ص: 128 ]

ولكن كل هـذا النقد للعولمة، لا ينبغي أن ينسينا جوانب من العولمة مضيئة -كما يرى بعض الباحثين- حيث يخلق هـذا الواقع الجديد إمكانية التعرف على العالم عن قرب، والاتصال بثقافات جديدة متنوعة، حيث ينضاف بعد آخر للوعي الاجتماعي غاية في الأهمية، فمن جهة تفرض العولمة على البنية المعرفية للإنسان المفكر اعتبار النسبية، نسبية الفكر والقالب الثقافي والأيديولوجيا والتنظيم الاجتماعي، بحيث يصير البحث عن رؤية إنسانية جديـدة، وإفساح الـمـجال لتسامح إنساني واسـع يعـطي للآخـر حق الوجود والمنافسة.. ومن جهة أخرى تكسب العولمة الوعي الاجتماعي قدرة وذكاء أكبر مـما سبق لـمـحاجة بنى سلطوية جاثمة تاريخيا، ومساءلة أطر مرجعية قائمة، فليس هـناك ثمة شيء، من وضع البشر، معطى مرة واحدة وإلى الأبد، معرفيا وثقافيا ومنطقيا.

وتصير العولمة وفقا لهذه النظرية، ليست أيديولوجيا محددة ولا نظرية ولا اتجاها سياسيا، رغم أنها قابلة، كغيرها من الظواهر الاجتماعية البشرية، أن تخضع للتوصيف الأيديولوجي أو التحليل النظري والتخندق السياسي. [ ص: 129 ]

وليست العولـمـة أيضـا شـرا أو خيـرا بحد ذاتها، ولا هـي وسيـلة مؤكدة للحداثة أو الهيمنة والتنميط الثقافي أو العدوان وما شاكل، رغم أنها قد تكون كذلك، لكن في الإمكان فحسب، فالعقلانية، والديمقراطية، والسوق الحرة، والخصخصة، ومعايير النمو الاقتصادي المختلفة، كلها جزء من هـذا المسرح الجديد.

وتؤكد هـذه الرؤية المختـلفة أن العولمة لا يمكن اختزالها كذلك، إلا تعسفا واعتبـاطا، إلى مفهـوم الأمـركة، بالقـدر الذي ليست فيه الثقافة الأمريكية ولا الأوروبية وحدها التي تنتمي لعالم التفاعلات الثقافية المتعددة الأشكال، بل هـناك أيضا مدخلات ومصدات وعوامل نفي أو فلـترات ثقافية مستمرة من جانب ثقافات أخرى قريبة أو بعيدة، أو حديثة النشأة، عصرية أو قديمة، ثقافات لا تني، هـي ذاتها، تمتد مكانيا في جوف العالم الغربي ذاته، إما لتنصهر معه في تشكيلة جديدة أو لتتحول إلى كيانات مستقلة نسبيا، لها خيرها المكاني والاجتماعي في زمن الغرب وثـقـافتـه، أو بالأحـرى ثقـافـاته، إذ ليس هـناك نمط ثقافي موحد في أي مكان . [18] [ ص: 130 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية