الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون

الدكتور / عبد الحليم عويس

ابن خلـدون رائد التفسير العلمي للتاريخ

لقد كانت النظرة التقليدية إلى التاريخ تهتم، غاية ما تهتم، بجمع الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية، التي تتخذ صور المعـاهـدات، أو التنازلات، أو ما إلى ذلك من أمور تتصل بطريق أو بآخر بالخط السياسي والعسكري. وقلما كان قارئ التاريخ يجد بين ثنايا الكتابات الموضوعية، أو الحولية البالغة حد المجلدات، سطورا أو صفحات، تتناول ناحية فكرية أو اعتقادية، أو تحولا اجتماعيا أو اقتصاديا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبه شاملة - فضلا عن النظرة الشاملة - ترصد سائر العوامل المحركة والمسهمة في صنع الحدث التاريخي!!

وقد يكون بإمكاننا في هـذا البحث أن نقول: إن ذلك المنهج -بصفة عامة- قد سيطر على حركة التاريخ البشري، في سائر كتابات المؤرخـين باستثناء النظرات العارضة التي تناولناها آنفا حتى ظهر ذلك العملاق العبقري المغربي الأندلسي المسلم، عبد الرحمن بن خلدون.

إلا أننا -خضوعا للموضوعية- نضطر إلى القول: بأن مؤرخنا المسلم العظيم، قد استطاع أن يضع فعلا رؤية تنظيرية لتفسير التاريخ، بعوامل مختلفة، سماها طورا (العصبية الدينية أو القبلية) ، وسماها طورا (البيئة) ، (أي الأثر الجغرافي) ، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية.

إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسة تاريخية تطبيقية، نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول: إنه قد فتح عصرا جديدا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظ مؤرخنا الكبير، ومن سوء حظنا - كأمة ينتمي هـذا المفكر العملاق إليها - أن اشعاعات ابن خلدون القوية، واجهت أمة نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاته بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور، خلال القرون التي سبقت عصر [ ص: 108 ] اليقظة في أوروبا... أي الثامن والتاسع والعاشر للهجرة (الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر للميلاد) .

وبين صخب الصراعات الصغيرة الطائفية، في المجتمع الإسلامي العريض، ضاعت إيقاعات ابن خلدون... فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوروبيون اتصلوا بالعالم الإسلامي المتحضر. وهذا حق لا يمكن إنكاره، فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع نحن المسلمين الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أي إفادة..ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبا، وقد كتب الأوروبيون حول مقدمته الشهيرة (وهي الجزء الأول من كتابه الكبير: ( العبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) عشرات، بل مئات الدراسات، بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرج في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التاريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرا مباشرا وقويا وحاسما في يقظة الحضارة الأوروبية، وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبد الرحمن بدوي) حول الدراسات الأوروبية عن ابن خلدون - ( في كتابه عنه ) - من الأدلة الواضحة على عمق هـذا التأثير ووضوحه.

وقد تيقظ الأوروبيون منذ بداية عصر النهضة على أصداء المقدمة، وقد بدأوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعد التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم: (الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها، وهي تنسج سائر ألوان المعرفة في نسيج واحد، لينير طريق الحياة الإنسانية) .

ويروج الأوروبيون أن (فولتير) هـو الذي بدأ هـذه النظرة الشاملة للتاريخ إذ أنه صاحب أول كتاب ذائع الصيت في تطبيق النظرة الجديدة للتاريخ، وهو كتاب: (رسالة في أخلاق الشعوب وروحها، ووقائع التاريخ الرئيسة منذ شارلمان وحتى لويس الثالث عشر) .. لكن الحقيقة أن (فولتير) مسبوق [ ص: 109 ] بكثيرين، لعل من أهمهم (الراهب بوسيه) ، الذي كان يرى أن التاريخ (دراما إلهية، مقدمته وكل حادثة فيه هـي درس من السماء تعلمه للإنسان) ، كما سبقه أيضا المؤرخ المشهور (جيوفانو باتستافيكو) الذي كان يعترف بوجود العناية الإلهية (مثل الراهب بوسيه) ، ولكنه في الوقت نفسه كان يفسر أحداث التاريخ تفسيرا أرضيا وبشريا، خاضعا لقوانين شبه كلية، سواء كانت مسيرة التاريخ في اتجاه صحيح أو اتجاه فاسد.

وقد توصل (فيكو) إلى تقسيم ثلاثي للتاريخ، على أساس أنه ثلاث مراحل: ( مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة الحضارة) ، وهو تقسيم يذكرنا بتقسيم (هيجل) ، وتقسيم (أوجست كونت) ، وإن كانت ثمة فروق كثيرة بينهم.

وعلى أية حال، فإن النظرة الأوروبية تعتبر (فولتير) بداية عصر جديد في النظرة إلى التاريخ، ووظيفته، وتفسيره; لدرجة أن (أناتول فرانس) يبالغ فيسمي الفترة الي ظهر فيها (فولتير) : ( عصر فولتير) ،ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة هـي: عصر سقراط، وعصر هـوراس، وعصر دابلين، وعصر فولتير!!

والحق أن ابن خلدون هـو المفتاح الكبير، الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التاريخ، بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن كتابة التاريخ ينتظمها عصران:

- عصر ما قبل ابن خلدون.

- وعصر ما بعد ابن خلدون.

ومهما وجدت نظرات متناثرة في تفسير التاريخ قبل ابن خلدون، أو وجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية - على الأقل - يعتبر ابن خلدون مفرق طريق بين مرحلتين، وليس ذلك في الفكر التاريخي الإسلامي فحسب، بل في الفكر التاريخي الإنساني كله.

وليست هـذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون، رأيا عنصريا، أو عاطفيا، [ ص: 110 ] بل هـي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوروبين، وسجلوها في شهادات صريحة واضحة، فإن أكبر مفسر أوروبي للتاريخ في العصر الحديث، وهو الأستاذ (أرنولد توينبي) ، يتحدث عن ابن خلدون في مواضع كثيرة من كتابه (دراسة للتاريخ) ، ويفرد له في المجلد الثالث، سبع صفحات (321 - 327) ، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84 - 87) .. وهو يقرر أن ابن خلدون (قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هـي بلا مراء أعظم عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان) (المجلد الثالث ص 322) [1] ، وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: ( إنه لم يستلهم أحدا من السابقين، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه) .

وأما المؤرخ العالمي (روبرت فلنت) ، فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم (تاريخ فلسفة التاريخ) :

( إنه لا العالم الكلاسيكي ولا المسيحي الوسيط قد أنجب مثيلا له في فلسفة التاريخ، هـناك من يتفوقون عليه كمؤرخ، حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التاريخ، فليس له مثيل في أي عصر أو قطر، حتى ظهر (فيكو) بعده بأكـثر من ثلاثـة قـرون، لـم يـكن ( أفـلاطـون ) أو (أرسطو) أو (سان أو غسطين) أندادا له، ولا يستحق غيرهم أن يذكر إلى جانبه.. إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته، بعمق وشمول، لقد كان فريدا ووحيدا بين معاصريه في فلسفة التاريخ، كما كان (دانتي) في الشعر، و (روجر بيكون) في العلم، لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية، ولكنه وحده الذي استخدمها) [2] [ ص: 111 ]

ويقول عنه جورج سارتون: (لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى، شامخا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقا: ميكافيلي، وبودان، وفيكو، وكونت، وكورنو) !!

وبما أن ابن خلدون أسبقهم زمانا، وأبعدهم مكانة، وكلهم كانوا عالة عليه; فمن البدهي أن نقول: إنه الإمام لمدرسة فلسفة التاريخ، والفيصل بين مرحلتين حاسمتين في منهج البحث التاريخي.. إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية، نستطيع أن نسميه بلا تحفظ: (عصر ابن خلدون) .

ولم يكن ابن خلدون مجرد رائد لتفسير التاريخ، مع أسبقيته الزمانية لكل من ذكرناهم.. فمع كل ما ذكرناه من ملاحظات عن الفكر الخلدوني بين التنظير والتطبيق، هـناك جانب آخر يؤكد أصالة ابن خلدون وريادته في مجال التنظير العلمي للتاريخ..

فمن البدهي أن تفسير التاريخ أو فلسفته، إنما تقوم على أساس أن هـناك قوانين في الحركة التاريخية يمكن اكتشافها، والإفادة منها في معرفة مراحل قيام الحضارات والدول، وأسباب سقوطهما..

وبما أن مصطلح (قانون) يعني الثبات والاضطراد والقبول المستمر للتكرار، عندما تتحق الشروط، إيجابا أوسلبا، على النحو المعروف في العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية، فإن القول بخضوع التاريخ لقوانين اجتماعية تشبه قوانين العلوم الطبيعية، يؤدي إلى القول: بأن التاريخ (علم) وبأنه لا ينفصل في ذلك كثيرا عن العلوم الطبيعية، وبأنه بعيد عن مستوى (الفن) الخاضع للذاتية... وبالتالي فإن إطلاق مصطلح (فن التاريخ) عليه - عند بعضهم - يكون من باب التجوز، أو يكون إطلاقا خاطئا، نشأ من سيطرة المناهج التقليدية في دراسة التاريخ.

وجدير بالذكر أن الحديث عن فلسفة التاريخ أو تفسيره، لا بد أن يتصل اتصالا وثيقا بقضية علمية التاريخ، فهما -في الحقيقة- وجهان لموضوع واحد.

وعندما نصل إلى الحديث عن ابن خلدون، ومدى علمية التاريخ عنده، [ ص: 112 ] اعتمادا على أنه أحد الفلاسفة المسلمين الكبار، الذي أبرز بعض قوانين الحركة التاريخية، مثل قوانين: السبب والمسبب، التشابه والتباين، والاستحالة والإمكان، والجغرافية والبيئة، وصلتهما بتكييف الحضارة... والعصبية وصلتها بكيان الدولة، سقوطا وصعودا... عندما نصل إلى ابن خلدون، نجده أقرب ما يكون إلى القول بعلمية الحركة التاريخية، وأنه بالإمكان استخلاص قوانينها الاجتماعية المضطردة.. وهذا أمر يتساوى مع بنائه الفكري، بل هـو جوهر تجديده، وأبرز ما انتهى إليه من إبداع، وما استحق من أجله الريادة والفضل.

لقد كان ابن خلدون مدركا لثلاث قواعد إسلامية في تفسير التاريخ، عجز كثير من مفسري التاريخ المعاصرين عن إدراكها:

أولاهـا: أن التاريخ علم، لا يقل عن بقية العلوم الكونية، حتى وإن عجزنا عن اكتشاف كثير من مفاتيح القوانين التاريخية، نظرا لأن الظواهر الاجتماعية أعقد من الظواهر الطبيعية.

وثانيهما: أن هـذه القوانين، التي يمكن أن تخضع للسببية بطريقة حاسمة، لا تتناقص مع فعل الله وإرادته، وقدرته في التاريخ; إذ أن هـذه الأسباب المادية هـي وسائل الله، وهي جنوده، وتعليماته الصارمة، بل هـي الجبلة التي فطر الله الأشياء عليها، وهداها لتحقيق مشيئته - التي هـي وظيفتها - من خلالها..

وتأتي المعجزات لتكشف بين الحين والحين عن يد الله الخفية القادرة، التي تبطل الوسائل، وتغير التعليمات، في حالات استثنائية ولظروف طارئة!!

بل إن إرداة الله تعطي الوسائل والأسباب عنصر الفاعلية والإيجابية والبقاء، وتزودها بإمكانيات رصد المستقبل -في حدود- واكتشاف بعض الآفاق الضرورية لنمو الحياة ورقيها، تحقيقا لقوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت: 53) ، واكتشاف الأسباب وتسخيرها، هـي هـذه الآيات!!! [ ص: 113 ]

ثالثهما: أن ما يشاع عن وجود فوارق كثيرة بين مستوى الثبات والاضطراد في العلوم الطبيعية، وبين قوانين الحركة التاريخية، هـو نوع من المبالغة.. فالحق أن الفوارق بينهما، هـي في النسبة لا في النوع.. فهذه العلوم (العلمية) ، ذات (القوانين العلمية الثابتة) ، تتعرض كذلك لتحولات نسبية، وتغيرات، بل وتناقضات لا تقل عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية..

لقد استعمل ابن خلدون كلمة (فن) كثيرا وهو يتحدث عن علم التاريخ.. وهذا الاستعمال الذي جاء في مثل قوله: ( إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم ) ، أو قوله: ( اعـلم أن فـن التـاريخ... ) ، أو قوله: (صار فن التاريخ واهيا) ، هـذا الاستعمال لايعني إطلاقا الميل إلى أن التاريخ (فن) ، بالمعنى المعروف والمعاصر لمصطلح (فن) ، وهو أنه الإبداع القائم على الاتساق، والذاتية، والحرية، في نسيج واحد..

فالشائع لدى أسلافنا - رحمهم الله - أن كلمة (فن) ، تخضع لكثير من القوانين والاضطراد، وهي قد تطلق عندهم على علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا... وبدليل آخر هـو أن ابن خلدون أطلق كذلك - كلمة علم التاريخ، في عملية مزج بين المصطلحين، تخضع لرؤية تراثية... فقال مثلا: (التاريخ علم بكيفيات الوقائع وأسبابها، عميق) ، وقال: (المقدمة في فضل علم التاريخ) ، وهكذا...

ويرى أحد المفكرين المعاصرين، أنه من السهل ملاحظة التقارب بين رأي ابن خلدون ورأي العلماء المعاصرين، فالعناصر الأساس في تعاريفه هـي: الإنسان، والماضي، (والتقلب) ، وهي مطابقة للعناصر التي وجدناها في تعاريفهم، بل يزيد على ذلك وجود التفلسف والتعليل واكتشاف أسباب الحوادث [3] لكن هـذا المفكر المعاصر، يرى - مع ذلك - أن ابن خلدون لا يرى علمية [ ص: 114 ] فلسفة التاريخ (في الرؤية الخلدونية) ، لأن هـذه القوانين المزعومة ليست مطلقة، والشاذ منها قد لا يقل عن القياس، والمهم في ذلك أن المؤرخ -يعني ابن خلدون- قد أبطل سلطانها بنفسه، لأنه آمن بالمعجزات، وقال بالسحر والطلسمات.

ثم يقرر الباحث في حسم، أن ابن خلدون عرف التاريخ تعريفا جامعا يقبله حتى علماء العصر الحاضر، وأنه وضع لدرس التاريخ أهدافا مشابهة لأهدافهم، ولكنه لم يجعل من التاريخ علما، بالمعنى المفهوم في الوقت الحاضر، رغما عن ابتكاراته في فهم العمران والحضارة، فهما لم يسبقه إليه علماء المسلمين [4] والحق أن (العلمية) عند ابن خلدون - كما أوضحنا - لا تعني الاضطراد الحتمي، فهذا الاضطراد الحتمي غير موجود حتى في العلوم الطبيعية... إن يد الله تسوق الطبيعة الكونية والاجتماع البشري لمشيئة واحدة... والفرق يكمن في قدرتنا على الفهم والاستنباط، وليس في فعل الله.. وحتى مساحة الحرية الممنوحة للإنسان، تخضع لقوانين حضارية وأخلاقية قد لا نبصر آثارها إلا بعد أمد من الزمان، نعجز معه عن الربط بين الأسباب والنتائج... فضلا عن أن القوانين كلها - كما ذكرنا - إن في الطبيعة أو في الإنسان، ليست صارمة بالمعنى المادي الذي يريد أن يلغي المقنن والمسبب، اعتمادا على اضطراد القانون والسبب!!

ويشير باحث معاصر لهذه الحقيقة بعبارة واضحة، فيرى أننا على مايبدو أمام صياغة جديدة للعلم، يبتعد فيها عن الحتمية، ويسلم بمفاهيم العشوائية، وعدم الثبات، واللاخطية، وبأن الطبيعة تتضمن مظاهر جوهرية لعشوائية الأحداث والانعكاسية، وبأن القوانين الحتمية التي صيغت على امتداد القرون الأخيرة، لا تنطبق إلا على حالات قليلة جدا مما يحدث في الطبيعة... إن عمليات طبيعية مألوفة وشائعة، مثل اضطراب سريان الموانع، والانتشار، [ ص: 115 ] والتفاعلات الكيميائية، عمليات يستحيل وصفها بالقوانين الحتمية، ولا تكرار لحدوثها بنفس الشكل.

إن النتيجة المنطقية لهذا، هـي انعدام إمكانية التنبؤ بما سيحدث!!

إن هـذا التحول الجذري، قد أدى إلى تقارب في المنهج بين العلوم الطبيعية والاجتماعية.. وإذا ما كان هـذا التقارب قد بدأ أيضا بتحرك العاملين في العلوم الاجتماعية نحو تطبيق كثير من أساليب البحث في العلوم الطبيعية، مثل التحليل الإحصائي والنمذجة الرياضية، فإن الصياغة الجديدة للعلم الطبيعي، والتي تتبلور الآن أمام أعيننا، قد أظهرت أن النظم المعقدة، التي تدرسها العلوم الاجتماعية، ليست أكثر تعقيدا من النظم الطبيعية.

إن الصياغة الجديدة للعلوم الطبيعية، تسمح الآن -مثل العلوم الاجتماعية - مع وجود المعلومات غير الكاملة، وأوضاع عدم الاستقرار في القيم (!!) بالتسليم بإمكانية صعود أشكال متباينة للمستقبل، وتدعو إلى اهتمام أكثر تركيزا على منظومة القيم في النظام الاجتماعي، والبعد عن المحاولة اليائسة لصياغة علوم اجتماعية غير محملة بالقيم [5] والحقيقة أن القصور في استقصاء كل حضارات التاريخ ووقائعه الجزئية، لا يمثل خللا رئيسا في العملية التفسيرية للتاريخ، وإني لأستطيع أن أزعم أن العلم الطبيعي، ليس أفضل كثيرا من العلوم الإنسانية في هـذا السبيل.

فالقوانين المستنبطة في الطبيعة، لا تخضع لمنهج الاستقراء التام، وإلا لفقدت قيمتها -من جانب- وأيضا فإن ذلك غير ممكن، فضلا عن أن الاستقراء التام، لا يخدم مستقبل العلم في شيء ذي بال، وقد تعرضت المادة (التي يهلل بعضهم لثباتها) لكثير من التشكيك.

فعلم الطبيعة، الذي يعتبر في رأي كثير من العلماء، أوثق العلوم منهجا، [ ص: 116 ] ونتائـج بحـث، لم تسـتقر أسـسه أو قواعـده الأسـاس، فضلا عن نتائجه حتى الآن.

فبعد هـذه الرحلة الطويلة مع هـذا العلم، يزعم العالم الرياضي الكبير (برتراندرسل) ، أنه علم يقترب فقط من الكمال، وقوله هـذا مبالغ فيه.

وقد رد عليه كثير من العلماء، مثل (هنري بوانكاريه) ، الذي يرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى، فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف هـذا العلم أين يقف، وقد تغيرت أفكاره الأساس عن حقيقة الطبيعة، تغيرا تاما في العشرين سنة الأخيرة، فيما يختص بالمادة والحركة، كلتيهما...ولم تعد تسمح أعمال كوري ورذل فورد، وسودي، وآينشتاين، ومينكوفسكي، لأي تصور قديم عن الطبيعة (النيوتونية) بالبقاء (نسبة إلى نيوتن) أي أن عالم نيوتن، ونظرية النظام الوحيد للعالم - قد أصبحت مجرد أثر تاريخي متحفي - ولم تعد مسألة التثاقل Gravitatopm مسألة جاذبية، بل تمزقت قوانين الحركة في كل جهة بنظرية النسبية.

وحتى في منهج البحث الذي وصف طويلا بأنه المنهج العلمي، فإنه قد تغير، ولم يعد يبحث في المادة، أي المحسوس، والحقائق الواقعية، بل أصبح مجموعة من القوانين المستوردة المجردة [6] وقد أعجبني عندما كنت أقرأ كتاب (النظرة العلمية) لبرتراندرسل، عنوانا لفصل وضعه المؤلف تحت اسم: (الميتا فيزيقا العلمية ) [7] ، وقد تساءلت: هـل ارتفع العلم إلى (الميتا فيزيقا) ا أم أنه هـبط إلى منهجها - كما يقولون - بعد هـذا الغرور الذي سيطر على الماديين ؟!!

وفي هـذا الفصل (الميتا فيزيقا العلمية ) ، يسجل (راسل) ، أسفه لأن رجل الشارع ما كاد يؤمن بالعلم، حتى بدأ رجل المعمل يفقد إيمانه به; بحيث [ ص: 117 ] إن الفلسفة الجديدة لعلم الطبيعة، فلسفة متواضعة متلعثمة، بينما الفلسفة السابقة متكبرة متغطرسة.

لقد كان مفكرنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، مدركا، بل مسلحا برؤية إسلامية واضحة في تفسير التاريخ، ولم يجد أي تناقض بين الأسباب وإرادة الله، وبين الأسباب ونسبية الاضطراد، وبين العلم والفن، وبين القوانين السببية والمعجزات الإلهية!!

بل إنه كان أسبق في معرفة أن الفواصل بين القوانين الطبيعية والاجتماعية ليست كبيرة... لأنها تتحرك بإرادة واحدة، وتخضع لمشيئة واحدة، وتهدف لغايات واحدة..

وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن ابن خلدون يحتل مكانته في ريادة علم (تفسير التاريخ) ، على أساس موضوعي بحت، يتمثل في أن مقدمة ابن خلدون، وما تلاها من أجزاء كتابه (العبر) ، يعدان بحق المحاولة الأولى لإعطاء تاريخ عالمي معلل، كما يعدان النظرية المتكاملة الأولى في التاريخ الإنساني، لتفسير التاريخ...

وقد اتسمت منهجية ابن خلدون، بالشروط الأساس لتفسير التاريخ، تلك التي لا يقوم (علم تفسير التاريخ) بدونها، وهي:

1 - الشمولية العالمية في النظرة إلى التاريخ، أو حسب تعبير بعضهم (النظرة الكلية) فالتاريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة، لايمكن أن تشكل أساسا لتفسير التاريخ، ولا ينتظر أن يستقرئ كل مفسر للتاريخ سائر الأمثلة، التي تقدمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات، فذلك عمل، وإن كان هـدفا مثاليا، إلا أن تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير، وحسب مفسر التاريخ أن يقدم شرائح من حضارات مختلفة، بحيث تكون نتائجها المستخلفة صالحة للتكرار والتعميم.

2 - العلية فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هـذه العلية، وأي فلسفة، في أي علم من العلوم، لا بد أن تعتمد على التعليل، وهذا من الفروق الأساس بين المنهج التاريخي التقليدي، [ ص: 118 ] والمنهج الحضاري، أو منهج تفسير التاريخ.

والتعليل - أيضا - يكون قابلا للتكرار، في أطر حضارية أخرى، ولابد أن يكون عاما شأن سائر القوانين، وأما التعليل الجزئي، الذي يشبه (الحكمة) الخاطفة، فإنه لا يرقى إلى التعليل المطلوب لمفسر التاريخ.

والتعليل التاريخي، الذي يعتمده مفسر التاريخ، ليس تعليلا جزئيا -كما ذكرنا- وليس تعليلا خارجيا، بل هـو تعليل باطني [8] مستقى من الرؤية الشاملة الفلسفية لما يقبع خلف الوقائع الظـاهرة.. إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومن ربطها بإطارها العام.

3 - الفكر فإذا كان المؤرخ مجرد مسجل للحدث، باحث عن الطرق الصحيحة لإثباته، فإن مفسر التاريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقدة، في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره من حاضره، عن طريق بنائه بناء تركيبيا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب، فالجانب المعرفي، والفكري، أساس لمفسر التاريخ.

4 - الحركة أو (الديناميكية) المفسر للتاريخ يقدم لنا صورة تبدو وكأنها إعادة حية (متحركة) للواقع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث، ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية، و (البيلوجية) ، والفكرية، والعقدية، والاقتصادية، ويربط بينها، ويعطي لكل عامل حجمه في مرحلته التاريخية.

أما المؤرخ فيقدم لنا التاريخ، أقرب إلى السكونية الجامدة، التي تعطينا جانبا معرفيا منظورا، ولا تحرك فينا جوانب الاستحضار، والتفاعل، والبصر، بالعوامل الباطنية.

وفي مقدمة ابن خلدون، ومن خلال عرضه لنظرياته، نستطيع أن نتحقق من وجود هـذه الشروط، التي تجعله -بالقياس الموضوعي البحت- مفسرا رائدا للتاريخ!! [ ص: 119 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية