الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب كراء الأرض بالذهب والفضة وقال ابن عباس إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة

                                                                                                                                                                                                        2220 حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الليث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم وقال الليث وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب كراء الأرض بالذهب والفضة ) كأنه أراد بهذه الترجمة الإشارة إلى أن النهي الوارد عن كراء الأرض محمول على ما إذا أكريت بشيء مجهول وهو قول الجمهور ، أو بشيء مما يخرج منها ولو كان معلوما ، وليس المراد النهي عن كرائها بالذهب أو الفضة .

                                                                                                                                                                                                        وبالغ ربيعة فقال : لا يجوز كراؤها إلا بالذهب أو الفضة ، وخالف في ذلك طاوس وطائفة قليلة فقالوا : لا يجوز كراء الأرض مطلقا ، وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك ، وحديث الباب دال على ما ذهب إليه الجمهور ، وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة ، ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه ، وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزرع ، فاختصموا في ذلك ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكروا بذلك [ ص: 32 ] وقال : أكروا بالذهب والفضة ورجاله ثقات ، إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد .

                                                                                                                                                                                                        وأما ما رواه الترمذي من طريق مجاهد عن رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض ببعض خراجها أو بدراهم فقد أعله النسائي بأن مجاهدا لم يسمعه من رافع . قلت : وراويه أبو بكر بن عياش في حفظه مقال ، وقد رواه أبو عوانة وهو أحفظ منه عن شيخه فيه فلم يذكر الدراهم . وقد روى مسلم من طريق سليمان بن يسار عن رافع بن خديج في حديثه " ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عباس إلخ ) وصله الثوري في جامعه قال : أخبرني عبد الكريم هو الجزري عن سعيد بن جبير عنه ولفظه " إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء ليس فيها شجر " يعني من السنة إلى السنة وإسناده صحيح ، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن حنظلة ) في رواية الأوزاعي عن مسلم عن ربيعة حدثني حنظلة لكن ليس عنده ذكر عمي رافع ، وفي الإسناد تابعي عن مثله وصحابي عن مثله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثني عماي ) هما ظهير بن رافع وقد تقدم حديثه في الباب قبله والآخر قال الكلاباذي لم أقف على اسمه ، وذكر غيره أن اسمه مظهر وهو بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة وضبطه عبد الغني وابن ماكولا ، هكذا زعم بعض من صنف في المبهمات ، ورأيت في " الصحابة لأبي القاسم البغوي " ولأبي علي بن السكن من طريق سعيد بن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج " أن بعض عمومته " قال سعيد : زعم قتادة أن اسمه مهير فذكر الحديث ، فهذا أولى أن يعتمد وهو بوزن أخيه ظهير كلاهما بالتصغير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يستثنيه ) من الاستثناء كأنه يشير إلى استثناء الثلث أو الربع ليوافق الرواية الأخرى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم ) يحتمل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده ، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه ، أو علم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه بل بما إذا كان بشيء مجهول ونحو ذلك ، فاستنبط من ذلك جواز الكراء بالذهب والفضة ، ويرجح كونه مرفوعا ما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح من طريق سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض ، ورجل منح أرضا ، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة لكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة والمزابنة وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب ، وقد رواه مالك في " الموطأ " والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الليث وكان الذي نهى عن ذلك ) كذا للأكثر عن الليث وهو موصل بالإسناد الأول إلى الليث ، ووقع عند أبي ذر هنا : قال أبو عبد الله يعني المصنف من هاهنا قال الليث أراه ، وسقط هذا النقل عن الليث عند النسفي وابن شبويه ، وكذا وقع في " مصابيح البغوي " فصار مدرجا عندهما في نفس الحديث والمعتمد في ذلك على رواية الأكثر ، ولم يذكر النسفي ولا الإسماعيلي في روايتهما لهذا الحديث من طريق الليث هذه الزيادة ، وقد قال التوربشتي شارح المصابيح : لم يظهر لي هل هذه الزيادة من قول [ ص: 33 ] بعض الرواة أو من قول البخاري ، وقال البيضاوي : الظاهر أنها من كلام رافع ا هـ .

                                                                                                                                                                                                        وقد تبين برواية أكثر الطرق في البخاري أنها من كلام الليث ، وقوله : ( ذوو الفهم ) في رواية النسفي وابن شبويه " ذو الفهم " بلفظ المفرد لإرادة الجنس ، وقالا : " لم يجزه " . وقوله : ( المخاطرة ) أي الإشراف على الهلاك ، وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن كرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة .

                                                                                                                                                                                                        ثم اختلف الجمهور في جواز كرائها بجزء مما يخرج منها فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهي على التنزيه وعليه يدل قول ابن عباس الماضي في الباب الذي قبله ، حيث قال : " ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض " ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج منها قال : النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة .

                                                                                                                                                                                                        وقال مالك : النهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام ، قال ابن المنذر : ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكرى به من الطعام جزءا مما يخرج منها ، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري أو بطعام حاضر يقبضه المالك فلا مانع من الجواز . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية