الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما كتاب المجوس ، فلم يبق لهم في شريعة الإسلام كتاب ، واختلف هل كان لهم ، فذكر الشافعي - فيما نقله المزني هاهنا - أنهم أهل كتاب ، وقد نص عليه في كتاب الأم ، وقال في موضع آخر : لا كتاب لهم ، وقد علق القول في موضع ثالث ، فاختلف أصحابه في مذهبه ، فذهب البغداديون إلى أنه على قولين بحسب اختلاف نصه في الموضعين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم أهل كتاب .

                                                                                                                                            والثاني : ليس لهم كتاب .

                                                                                                                                            وذهب البصريون إلى أن قوله لم يختلف فيهم ، وحملوا قوله : إنهم أهل كتاب على أن حكمهم حكم أهل الكتاب في إقرارهم بالجزية خاصة ، وقوله : إنه لا كتاب لهم في أنه لا تستباح مناكحهم ، ولا تؤكل ذبائحهم ، وأنهم لا يتلون كتابا لهم .

                                                                                                                                            والذي عليه الجمهور من أصحابنا ما قاله البغداديون من القولين دون ما ذهب إليه البصريون من اختلاف الحالين .

                                                                                                                                            [ ص: 292 ] فإذا قيل : إنه لا كتاب لهم ، وهو مذهب أهل العراق ، فدليله قول الله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، [ الأنعام : 156 ] .

                                                                                                                                            فدل على أنه لا كتاب لمن عداهما ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كاتب كسرى وقيصر ، قال في كتابه إلى قيصر : ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا [ آل عمران : 64 ] .

                                                                                                                                            فجعلهم من أهل الكتاب ، ولم يكتب إلى كسرى بهذا ، وكتب : أسلم تسلم ، فدل على أنه ليس لهم كتاب ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، ولو كان لهم كتاب لاستغنى عن هذا بأن قال هم أهل الكتاب .

                                                                                                                                            ولرواية ابن عباس أن المسلمين بمكة قبل الهجرة كانوا يحبون أن يظهر الروم على فارس : لأنهم أهل كتاب ، وكان مشركو قريش يحبون أن يظهر فارس على الروم : لأنهم غير أهل كتاب ، فلما غلبت فارس الروم سر المشركون ، وقالوا للمسلمين : تزعمون أنكم ستغلبونا : لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم ، والروم أهل كتاب ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فساءه فنزل عليه قوله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء [ الروم : 1 - 5 ] .

                                                                                                                                            ففرح المسلمون بذلك ، وبادر أبو بكر إلى كفار قريش ، فأخبرهم بما أنزل الله على رسوله من أن الروم ستغلب فارسا ، وتقامر أبو بكر وأبي بن خلف على هذا بأربع قلائص إلى ثلاث سنين ، وكان القمار يومئذ حلالا ، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر قدر لهم هذه المدة أنكرها ، وقال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : ثقة بالله ورسوله . قال : فكم البضع ؟ قال : ما بين الثلاث إلى العشر . فقال له : زدهم في الخطر ، وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين ، فصارت القلائص ستا ، والأجل خمسا ، فلما أراد أبو بكر الهجرة علق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر
                                                                                                                                            ثم إن الله تعالى أنجز وعده في غلبة الروم لفارس في عام بدر ، ونصر رسوله على قريش يوم بدر ، وقيل : إنه كان النصران في يوم واحد ، فعلم بهذا الخبر أن الفرس ، وهم المجوس ، لم يكن لهم كتاب ، وأن الروم من النصارى هم أهل الكتاب ، ولأنهم لو كانوا أهل كتاب ، لظهر فيهم كظهور التوراة والإنجيل ، ولجرت عليهم من استباحة مناكحهم ، وأكل ذبائحهم أحكام أهل الكتاب كاليهود والنصارى .

                                                                                                                                            وإذا قلنا بالقول الثاني إنهم أهل كتاب ، فدليلنا رواه الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد بن المرزبان ، عن نصر بن عاصم ، قال : قال فروة بن نوفل الأشجعي [ ص: 293 ] على ما تؤخذ الجزية من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ، فقام إليه المستورد ، فأخذ بلبته وقال : يا عدو الله تطعن على أبي بكر ، وعمر وعلى أمير المؤمنين - يعني عليا - وقد أخذوا منهم الجزية ، فذهب به إلى القصر فخرج علي - عليه السلام - فقال : اتئدا فجلسنا في ظل القصر ، فقال : أنا أعلم الناس بالمجوس ، كان لهم علم يعلمونه ، وكتاب يدرسونه ، وإن ملكهم سكر ، فوقع على ابنته أو أخته ، فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد ، فامتنع منهم فدعا أهل مملكته ، فلما أتوه قال : أتعلمون دينا خيرا من دين آدم ، وقد كان ينكح بنيه من بناته ، وأنا على دين آدم ما نزعت بكم عن دينه ، فبايعوه ، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم ، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم ، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب .

                                                                                                                                            وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر منهم الجزية ، وانتشار هذا مع عدم المخالف فيه إجماع منعقد ، ولأن الاتفاق على جواز أخذ الجزية منهم ، وهي مقصورة على أهل الكتاب تجعلهم من أهل الكتاب الداخلين في قوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ، [ التوبة : 29 ] . ولأنهم قد كانوا ينتسبون إلى نبي مبعوث ، ويتعـبدون بدين مشروع ، ولا يكون ذلك إلا عن كتاب يلتزمون أحكامه ، ويعتقدون حلاله وحرامه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية