الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل :

                                                                                                                                            وأما البكر : فحده جلد مائة وتغريب عام ، ويكون كل واحد منهما حدا ، فيجمع عليه بين حدين ، رجلا كان الزاني أو امرأة .

                                                                                                                                            وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ليس عليه إلا حد واحد وهو الجلد ، فأما التغريب فهو تعزير غير مقدر يرجع فيه إلى رأي الإمام في فعله وتركه ، أو العدول إلى تعزيره .

                                                                                                                                            وقال مالك : يجمع بينهما في حد الرجل ، ولا يجمع بينهما في حد المرأة ، وتجلد ولا تغرب : لأنها عورة .

                                                                                                                                            واستدلوا على أن التغريب ليس بحد في الزنا ، بقول الله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، فكان الدليل فيه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه اقتصر في حدها على الجلد ، ولو وجب التغريب لقرنه به : لأن تأخير البيان عن وقته لا يجوز .

                                                                                                                                            والثاني : أن وجوب التغريب زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، ونسخ القرآن لا يجوز بأخبار الآحاد ، قالوا : ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منع من سفر المرأة إلا مع ذي محرم ، فإن غربت مع غير ذي محرم أسقطتم الخبر ، وإن غربت مع ذي محرم أوجبتم التغريب على من ليس بزان ، ولأنه سبب يوجب الحد فلم يجب به التغريب كالقذف وشرب الخمر ، ولأنه زنا يوجب عقوبة فلم يجمع فيه بين حدين كزنا الثيب .

                                                                                                                                            ودليلنا : حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .

                                                                                                                                            فإن قيل : لما كان ما اقترن برجم الثيب من الجلد منسوخا ، اقتضى أن يكون ما اقترن بجلد البكر من التغريب منسوخا . قيل : نسخ أحدهما لا يوجب نسخ الآخر : لأن النسخ يؤخذ من النص دون القياس ، وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل : " وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام " بعد قول الرجل : وسألت رجالا من أهل العلم ، فقالوا : على ابنك جلد مائة وتغريب عام . فصار هذا الخبر يجمع نصا ووفاقا ، ولأنه إجماع الصحابة .

                                                                                                                                            [ ص: 194 ] وروي أن أبا بكر رضي الله عنه جلد وغرب إلى فدك .

                                                                                                                                            وجلد عمر وغرب إلى الشام . وجلد عثمان وغرب إلى مصر .

                                                                                                                                            وجلد علي وغرب من الكوفة إلى البصرة ، وليس لهم في الصحابة مخالف .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد قال عمر حين غرب : لا أنفي بعده أحدا .

                                                                                                                                            وقال علي : كفى بالنفي فتنة . فدل على أنهم غربوا تعزيرا يجوز لهم تركه ، ولم يكن حدا محتوما . قيل : أما قول عمر لا أنفي بعده أحدا ، فإنما كان ذلك منه في شارب خمر نفاه فارتد ولحق بالروم ، والنفي في شرب الخمر تعزير يجوز تركه ، وهو في الزنا حد لا يجوز تركه .

                                                                                                                                            وأما قول علي : " كفى بالنفي فتنة " . فيعني : عذابا ، كما قال الله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ الذاريات : 13 ] ، أي يعذبون . ولأن التغريب عقوبة تقدرت على الزاني شرعا ، فوجب أن يكون حدا كالجلد ، ولأن الزنا معصية توجب حدا أعلى وهو الرجم ، وأدنى وهو الجلد ، فوجب أن يقترن بأدناها غيرهما ، كالقتل يوجب أعلى وهو القود ، وأدنى وهو الدية ، واقترن بها الكفارة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها تضمنت كل ما وجب بالقرآن ، والتغريب واجب بالسنة دون القرآن .

                                                                                                                                            والثاني : أن الزيادة على النص عندنا لا تكون نسخا ، ولو كانت نسخا لم تكن زيادة التغريب هاهنا نسخا : لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أننا قد اتفقنا عليها وإن اختلفنا في حكمها ، فجعلوها تعزيرا وجعلناها حدا .

                                                                                                                                            والثاني : أنها تكون نسخا إذا تأخرت ، والتغريب هاهنا تفسير لقوله : أو يجعل الله لهن سبيلا [ النساء : 15 ] ، فكان مقدما على قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، فخرج عن حكم النسخ .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن تغريبها مع ذي المحرم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما لم يمنع ذلك من تغريبها تعزيرا لم يمنع من تغريبها حدا .

                                                                                                                                            [ ص: 195 ] والثاني : أن المحرم شرط عندنا في مباح السفر دون واجبه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : لا تصومن امرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه محمولا على تطوع الصوم دون مفروضه ، وهذا واجب كالحج ، فلم يفتقر إلى ذي محرم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على حد القذف ، وشرب الخمر فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قياس يدفع النص ، فكان مطرحا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما لم يجز أن يغرب في غير الزنا تعزيرا ، وجاز في الزنا ، لم يمنع من وجوبه في الزنا حدا ، وإن لم يجب في غير الزنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الثيب فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن حد الثيب أغلظ العقوبات ، فسقط به ما دونه .

                                                                                                                                            والثاني : أن الرجم فيه قد منع من حد يتعقبه ، والجلد لا يمنع ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية