الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : " فمن ذلك أن كل من ملك زوجة فليس عليه تخييرها وأمر عليه الصلاة والسلام أن يخير نساءه فاخترنه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ذكر الشافعي ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحه دون غيره لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كتاب النكاح فأورد ما اختص بالنكاح .

                                                                                                                                            والثاني : أنه منقول عنه من " أحكام القرآن " فأورد منه ما نص الله تعالى عليه في القرآن ، فمن ذلك وهو ما خص به تغليظا أن الله تعالى أوجب عليه تخيير نسائه ، ولم يوجب ذلك على أحد من خلقه ، فقال تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما [ الأحزاب : 28 ، 29 ] فاختلف أهل العلم فيما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن وبين اختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن الطلاق . وهذا قول الحسن وقتادة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام . وهذا قول عائشة ومجاهد ، وهو الأشبه بقول الشافعي .

                                                                                                                                            واختلف أهل العلم في سبب هذا التخيير على خمسة أقاويل :

                                                                                                                                            [ ص: 11 ] أحدها : أن نساءه تغايرن عليه ، فحلف أن لا يكلمهن شهرا ، فأمر بتخييرهن . وهذا قول عائشة .

                                                                                                                                            والثاني : أنهن اجتمعن يوما ، وقلن : نريد ما تريد النساء من الثياب والحلي وطالبنه وكان غير مستطيع ، فأمر بتخييرهن ( حكاه النقاش ) .

                                                                                                                                            والثالث : أن الله تعالى أراد امتحان قلوبهن ليرتضي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساء خلقه ، فخيرهن .

                                                                                                                                            والرابع : أن الله تعالى صان خلوة نبيه ، فخيرهن على أن لا يتزوجن بعده ، فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن ، وهذا قول مقاتل .

                                                                                                                                            والخامس : أن الله تعالى خير نبيه بين الغنى وبين الفقر ، فنزل عليه جبريل ، وقال : إن الله - تعالى - يقرئك السلام ، ويقول : إن شئت يا محمد جعلت لك جبالا ذهبا . فقال : صف لي الدنيا . فقال حلالها حساب ، وحرامها عذاب . فاختار الفقر على الغنى والآخرة على الدنيا ، وقال : لأن أجوع يوما فأصبر وأشبع يوما فأشكر خير من الدنيا وما فيها ، اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين . فحينئذ أمره الله تعالى بتخيير نسائه ، لما في طباع النساء من حب الدنيا ، فلما نزل عليه التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة - وكانت أحب نسائه إليه وأحدثهن سنا - فتلا عليها آية التخيير ، حتى تستأمري أبويك : لأنه خاف مع حبه لها أن تعجل لحداثة سنها فتختار الدنيا ، فقالت : أفيك يا رسول الله أستأمر أبوي ؟ ! قد اخترت الله ورسوله والدار الآخرة ، وسألته أن يكتم عليها اختيارها عند أزواجه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما كان النبي أن يغل ، ثم دخل على أزواجه ، فكان إذا دخل على واحدة منهن تلا عليها الآية ، تقول : ما اختارت عائشة ؟ فيقول : اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، حتى دخل على فاطمة بنت الضحاك الكلابية وكانت من أزواجه ، فلما تلا عليها الآية فقالت : قد اخترت الحياة الدنيا وزينتها ، فسرحها ، فلما كان في زمن عمر وجدت تلقط البعر ، وهي تقول : اخترت الدنيا على الآخرة ، فلا دنيا ولا آخرة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية