الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من تخييرهن انتقل الكلام إلى حكم الاختيار .

                                                                                                                                            فإن قيل : عليه السلام خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن وبين اختيار الآخرة فيمسكهن ، لم يقع بهذا الاختيار طلاق حتى يطلقهن ، وعليه أن يطلقهن إن اخترن الدنيا كما طلق فاطمة بنت الضحاك : لقوله تعالى : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا [ الأحزاب : 28 ] . والسراح الجميل يحتمل ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنه الصريح من الطلاق دون الكناية لئلا يراعى فيه النية .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أقل من ثلاث لتمكن فيه الرجعة . [ ص: 12 ] والثالث : أن يوفي فيه الصداق ويدفع فيه المتعة ، فإن طلق المختارة منهن أقل من ثلاث ، فهل يقع طلاقها بائنا لا يملك فيه الرجعة أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يكون كطلاق غيره من أمته رجعيا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يكون بائنا لا رجعة فيه ، لأن الله تعالى غلظ عليه في التخيير ، فيغلظ عليه الطلاق ، وفي تحريمهن بذلك على التأبيد وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يحرمن على التأبيد يكون سراحا جميلا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : قد حرمن على الأبد ، لأنهن اخترن الدنيا على الآخرة ، فلم يكن من أزواجه في الآخرة ، فهذا حكمهن إذا قيل إن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان تخييرا بين الدنيا والآخرة ، فأما إذا قيل - وهو الأظهر من القولين - : أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام ، فتخيير غيره من أمته يكون كناية يرجع فيه إلى نية الزوج في تخييرها ، وإلى نية الزوجة في اختيارها .

                                                                                                                                            وقال مالك : وهو صريح ، فإن لم تختر نفسها كان صريحا في طلقه بائن .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن لم تختر نفسها لم تطلق ، وإن اختارت نفسها كان صريحا في طلقه بائن لا يرجع فيه إلى نية أحد منهما ، وللكلام عليهما موضع يأتي .

                                                                                                                                            وأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كناية لتخيير غيره يرجع فيه إلى نيتهما .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه صريح في الطلاق ، لا يراعى فيه النية : لخروجه مخرج التغليظ على نبيه ، ثم هل يكون بائنا يوجب تحريم الأبد أم لا ؟ على ما ذكرنا من الوجهين ، ثم تخيير غيره من أمته يراعى في اختيار الزوجة على الفور فمتى تراخى اختيارها بطل ، لأنه يجري مجرى الهبة في تعجيل قبولها على الفور ، فأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لهن في هذه الحال ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يراعى فيه تعجيل الاختيار على الفور ، فإن تراخى بطل حكمه ، لما ذكرنا من اعتباره بقبول الهبة التي هو وغيره من أمته فيها سواء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن اختيارهن على التراخي لما اختصصن به من النظر لأنفسهن بين الدنيا والآخرة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : - رضي الله عنها - حين خيرها : " استأمري أبويك " فلولا أنه على التراخي لكان بالاستئمار يبطل الاختيار .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية