الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولو أوصى بأمة لزوجها وهو حر فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولادا ، فإن قبل عتقوا ولم تكن أمهم أم ولد حتى تلد منه بعد قبوله بستة أشهر فأكثر لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح ووطء القبول وطء ملك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن لهذه المسألة ثلاث مقدمات لا يصح جوابها إلا بتقرير مقدماتها .

                                                                                                                                            أحدها : الحمل هل يكون له حكم يختص به ، أو يكون تبعا لا يختص بحكم ؟ وفيه قولان : أحدهما أن له حكما مخصوصا ويصح أن يكون معلوما ، وأن الحامل إذا بيعت يقسط الثمن عليها وعلى الحمل المستجد في بطنها ؛ لأنه لما صح أن يعتق الحمل ، فلا يسري إلى أم ويوصى به لغير مالك الأم ، دلت على اختصاصه بالحكم وتمييزه عن الأم . والقول الثاني : أن الحمل يكون تبعا لا يختص بحكم ولا يكون معلوما ؛ لأنه لما سرى عتق الأم إليه صار تبعا لها كأعصابها ، ولما جاز أن يكون موجودا أو معدوما لم يجز أن يكون معلوما فهذه مقدمة .

                                                                                                                                            والمقدمة الثانية : وهي أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر لا يجوز أن يحيا ولد وضع [ ص: 252 ] لأقل من ستة أشهر اعتبارا بالعرف المعهود ، ثم بالنص الوارد . قال تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] .

                                                                                                                                            فلما كان الفصال حولين كاملين ، دل على أن الستة الأشهر الباقية هي أقل مدة الحمل .

                                                                                                                                            فإن ولدت زوجة رجل لأقل من ستة أشهر من عقد نكاحها ، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وطء سيدها ، كان الولد منتفيا عنه وغير لاحق به .

                                                                                                                                            والمقدمة الثالثة : ملك الوصية متى يحصل للموصى له ويدخل في ملكه ؟ وفيه قولان منصوصان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يملك الوصية بالقبول ، واختلف أصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت ، على هذا القول ، هل تكون باقية على ملك الموصي ، أو داخلة في ملك الورثة ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين : أن ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته ، ثم بالقبول يدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصي بالموت .

                                                                                                                                            والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي - وأكثر البغداديين : أن الوصية باقية على ملك الموصي بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله وتنتقل إليه عن الموصي ؛ لأن الوصية تملك عنه كالميراث .

                                                                                                                                            ووجه هذا القول بأن الوصية تملك بالقبول هو أنها عطية ، فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات .

                                                                                                                                            قال الشافعي : " وهذا قول ينكسر " ا هـ .

                                                                                                                                            والقول الثاني وهو أصحهما أن القبول يدل على حصول الملك بالموت ، فيكون الملك موقوفا ، فإن قبل حمل على تقدم ملكه ، وإن لم يقبل دل على عدم ملكه .

                                                                                                                                            ووجه هذا القول هو أنه لما امتنع أن يبقى للميت ملك ، وأن الوارث لا يملك الإرث ، اقتضى أن يكون الملك موقوفا على قبول الموصى له ورده وحقه في القبول باق ، ما لم يعلم ، فإن علم ، فإن كان عند إنفاذ الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور فاقبل ، وإلا بطل حقه في الوصية ، فأما بعد علمه وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة ، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه : أن القبول فيه على التراخي لا على الفور ، فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد ، حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة ؛ لأنه لما لم يعتبر القبول مع الوصية ، اعتبر عند إنفاذ الوصية .

                                                                                                                                            [ ص: 253 ] وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا أن القبول بعد علمه على الفور ؛ لأنها عطية كالهبات .

                                                                                                                                            وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا : أن الوصية تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار الميراث .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في تخريجه قولا ثالثا للشافعي ، فخرجه أبو علي بن أبي هريرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث .

                                                                                                                                            وامتنع أبو إسحاق المروزي وأكثر المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين :

                                                                                                                                            إما حكاية عن مذهب غيره ، وإما على معنى أنه بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه .

                                                                                                                                            وفرقوا بين الوصية والميراث بأن الميراث عطية من الله تعالى فلم يراعى فيها القبول ، والوصية عطية من آدمي فروعي فيها القبول .

                                                                                                                                            فهذه مقدمات المسألة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية