الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : حكم بيع النجاسات

                                                                                                                                            فأما النجاسات فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كانت عينه نجسة .

                                                                                                                                            والثاني : ما طرأت عليه النجاسة وجاورته .

                                                                                                                                            فأما ما كان نجس العين كالخمر والميتة والدم والأرواث والأبوال ، فلا يجوز بيع شيء منها .

                                                                                                                                            وجوز أبو حنيفة بيع جلد الميتة ، وقد مضى الكلام معه في كتاب الطهارة ، وجوز أيضا بيع السرجين وروث ما يؤكل لحمه : استدلالا بأنه فعل الأمصار في سالف الأعصار من غير إنكار ، فلولا إباحته باتفاقهم لأنكروه أو بعضهم .

                                                                                                                                            ولأن ما جاز الانتفاع به من غير ضرورة جاز بيعه كسائر الأموال ، ودليلنا رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله اليهود ثلاثا ، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه " .

                                                                                                                                            ولأنه نجس العين فوجب أن لا يجوز بيعه كالميتة والخنزير : ولأنه رجيع نجس ، فوجب أن لا يجوز بيعه كالعذرة .

                                                                                                                                            [ ص: 384 ] وأما استدلالهم بأنه فعل أهل الأمصار من غير مانع ولا إنكار ، فهذا إنما يفعله جهال الناس وأرذالهم ، فلم يكن فعلهم حجة على من سواهم .

                                                                                                                                            على أن ما ظهر من الأفعال لا يدل عند أبي حنيفة على الاعتقاد : لأن جميع الناس في جميع الأعصار يعطون أجرة المعلم ، يفعله العالم الفاضل ، ويأخذه العالم الفاضل ، وليس ذلك عنده حجة في جواز أخذ أجرة التعليم ، فكيف يجعل هاهنا فعل جهال الناس حجة علينا . وأما قياسه بعلة أنه منتفع به فمنتقض بالحر ، والوقف ، وأم الولد ، ثم المعنى في الأصل أنه طاهر منتفع به . فهذا الكلام فيما كان نجس العين .

                                                                                                                                            وأما ما طرأت عليه النجاسة وجاورته فنجس بها ؛ فهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ضرب يصح غسله ، وضرب لا يصح غسله ، وضرب مختلف في صحة غسله .

                                                                                                                                            فأما ما يصح غسله كالثياب والأواني والحبوب وجميع النجاسات التي لا تذوب بملاقاة الماء فغسله من النجاسة ممكن ، وبيعه قبل غسله جائز : لأن العين طاهرة ، والانتفاع بها ممكن ، وإزالة ما جاورها من النجاسة متأت .

                                                                                                                                            وأما ما لا يصح غسله كالسكر والعسل والدهن وسائر ما إذا لاقاه الماء ذاب فيه ، والخل ، فغسله لا يمكن وبيعه مع نجاسته باطل ، ويكون حكمه في بطلان البيع حكم ما كان نجس العين .

                                                                                                                                            وأما المختلف في صحة غسله : فالأدهان كلها اختلفوا في جواز غسلها .

                                                                                                                                            فمذهب الشافعي أن غسلها لا يجوز ولا يمكن ، وبيعها إذا نجست باطل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : غسلها ممكن ، وبيعها قبل الغسل جائز : استدلالا بأنها نجاسة مجاورة يمكن إزالتها فجاز بيعها معها كالثوب .

                                                                                                                                            ولأنه مائع يجوز الاستصباح به فجاز بيعه كالدهن الطاهر .

                                                                                                                                            ودليلنا حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه .

                                                                                                                                            وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وإن كان ذائبا فأريقوه .

                                                                                                                                            فلو جاز بيعه لمنع من إراقته فصار كالخمر المأمور بإراقته .

                                                                                                                                            وتحريره : أنه مائع نجس فلم يجز بيعه كالخمر .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الطاهر فلا يصح : لاختلافهما فيما يمنع من تساوي حكمهما . فأما ادعاؤهم إمكان الغسل فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن ذلك غير ممكن ؛ لتعذر [ ص: 385 ] اختلاطه بالماء ، والغسل إنما يصح فيما يختلط بالماء فيصل إلى جميع أجزائه ، أو يجاوز الماء جميع أجزائه ، وهذا متعذر في الدهن : لأنه يطفو على رأس الماء . وقال أبو العباس بن سريج : غسل الزيت ممكن ، وهو أن يراق في قلتين من ماء بأشد تحريك حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه ، فعلى هذا خرج جواز بيعه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : بيعه جائز كالثوب النجس .

                                                                                                                                            والثاني : باطل بخلاف الثوب ، وليس كل ما أفضى إلى الطهارة في الحال الثانية جاز بيعه كجلد الميتة . وهكذا من ذهب إلى هذا القول حرم بيع الماء النجس الذي يطهر بالمكاثرة ؛ على وجهين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية