مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو قبضها فأعتقها لم يجز عتقها " .
قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا اشترى شيئا شراء فاسدا إما لجهالة ثمنه ، وإما لفساد شرطه ، وإما لتحريم ثمنه لم يستحق قبضه ، فإن قبضه لم يملكه بالقبض وإن تصرف فيه بعد القبض ببيع أو هبة أو عتق ، كان باطلا مردودا .
وقال أبو حنيفة : قد ملكه ملكا ضعيفا ، فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو عتق قوي ملكه ونفذ تصرفه ، إلا أن يكون فساد العقد : لأن ثمنها مما لا يتمول بحال كالميتة والدم ، فإنه لا يملك بالقبض ، واستدل بحديث المقبوض عن عقد فاسد أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بريرة لعائشة أن تشتريها على الشرط الفاسد ، ثم أمضى عتقها وأنفذ تصرفها . قال : ولأنه مضمون عليه بعقد وجد فيه التسلط ، فوجب أن ينفذ فيه تصرفه كالمقبوض عن عقد صحيح . ولأن العقد في النكاح موضوع لملك البضع كما أن عقد البيع موضوع لملك الرقبة فلما تعلق بالوطء في النكاح الفاسد أحكام القبض في البيع الصحيح . قالوا : ولأن عقد الكتابة يوجب إزالة ملك السيد كما أن فلما استوى حكم الكتابة الصحيحة والكتابة الفاسدة في حصول العتق فيها وإزالة الملك بها ، وجب أن يستوي حكم البيع الصحيح والبيع الفاسد في نفوذ التصرف وزوال الملك ، وهذا خطأ . عقد البيع يوجب إزالة ملك البائع ،
ودليلنا قوله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [ البقرة : 275 ] . فلو كان يكون مملوكا ما استحق الوعيد عليه بأكله ، فلما توجه الوعيد إليه دل على أنه لم يصر بالتصرف في ملكه ، ولأنه مقبوض عن بيع فاسد فوجب أن لا ينفذ تصرفه فيه . المقبوض بالعقود الفاسدة المحرمة
أصله إذا ابتاعه بميتة أو دم . ولأن كل ما لا يحصل الملك به إذا عقد بميتة أو دم لم يحصل الملك به إذا عقد بخنزير أو خمر كالذي لم يقبض ؛ لأن كل أصل لزم رده بنمائه المنفصل عنه لم يكن ملكا لمن لزمه رده كالغصب المقبوض على وجه السوم . ولأن كل قبض أوجب ضمان القيمة لم يحصل به الملك . أصله إذا أقبضه عن بيع فاسد بشرط الخيار فإن شرط الخيار عنده يمنع من حصول الملك في الصحيح والفاسد معا .
ولأن فلما لم ينتقل الملك بالهبة عن القبض إلى العقد لم ينتقل الملك بالبيع عن العقد إلى القبض . ولأن كل ملك ما قبض عن بيع فاسد لا يخلو من أن يكون بالعقد أو بالقبض أو بهما جميعا ، فلم يجز أن يكون بالعقد وحده : لأنه لو لم [ ص: 317 ] يتعقبه القبض لم يحصل به الملك ، ولم يجز أن يكون بالقبض وحده : لأنه لو لم يتقدمه العقد لم يحصل به الملك . ولم يجز أن يكون بالعقد والقبض معا لأمرين : المبيع يملك بالعقد والهبة بالقبض ،
أحدهما : أنه مخالف لموضوع البيوع التي ينتقل الملك فيها بنفس العقد .
والثاني : أن للبائع بعد وجود العقد والقبض استرجاعه من المشتري ومطالبته بمهر المثل إن وطئ الجارية المقبوضة بالعقد الفاسد ، ولو ملكه لم يجز انتزاع ملكه في يده ، ولا مطالبته بمهر في وطء ملكه ، فدل على انتفاء الملك في الأحوال .
فأما الجواب عن استدلالهم بحديث فهو أن عقد ابتياعها كان صحيحا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بريرة لعائشة رضي الله عنها فيه ، ولا يجوز أن يأذن في عقد فاسد ، فكان عتق عائشة صادف ملكا عن عقد صحيح .
فأما قياسهم على العقد الصحيح فمنتقض بالعقد إذا كان الثمن فيه ميتة ، أو دما على أن المعنى في الصحيح أنه مضمون بالثمن فصح الملك به ، وليس كذلك الفاسد .
وأما استدلالهم بعقد النكاح فهو حجة عليهم : لأن ما يملك بالنكاح الصحيح في الطلاق والخلع والظهار ينتفي عن النكاح الفاسد فكذلك البيع . وأما لحوق النسب ووجوب العدة فهو من أحكام الوطء وليس مما يملك بالعقد .
وأما استدلالهم بالكتابة ، فالجواب عنه أن الكتابة الفاسدة إذا بطل حكم العقد فيها بقي العتق بالصفة ، فكان العتق بوجود الصفة لا بالكتابة الفاسدة ، وليس كذلك البيع .
فصل : فإذا ثبت أن البيع الفاسد لا يملك به ولا بالقبض والتصرف ، فلو لم يكن للبائع قلع بنائه ، وقيل له : إما أن تعطيه قيمة بنائه وغرسه قائما ، أو تقلعه وتعطيه ما نقص من قيمته . كان المبيع دارا فبنى المشتري فيها بناء أو كانت أرضا فغرس فيها غرسا ،
وقال أبو حنيفة : ليس للبائع استرجاع الدار ويأخذ قيمتها من المشتري .
وقال أبو يوسف ومحمد : ينقض البناء وترد الدار على بائعها ، والله أعلم .