[ ص: 286 ] باب جزاء الصيد
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : قال الله جل وعز : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، ( قال الشافعي ) والنعم : الإبل والبقر والغنم " .
قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا فعليه مثله من النعم ، والنعم : الإبل والبقر والغنم فيلزمه مثله في الشبه والصورة من غير أن تعتبر قيمة الصيد . قتل المحرم صيدا له مثل من النعم
وقال أبو حنيفة : تعتبر قيمة الصيد ، فيقوم الصيد دراهم ، ثم تصرف الدراهم إلى النعم ليشتري بها من النعم ما يجوز أضحية ، ولا اعتبار بمثل الصيد من النعم في الصورة والشبه استدلالا بقوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة 95 ] ، واستدلالهم بها من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله تعالى أوجب في الجزاء المثل من النعم ، والمثل في الشرع إما أن يتناول المثل من الجنس في الصورة والشبه ، وهذا قد يكون مثلا شرعا ولغة ، وإما أن يتناول القيمة فيكون مثلا شرعا لا لغة ، أو لا يتناول المثل من غير الجنس لا شرعا ولا لغة .
وإذا كان المثل يتناول أحد هذين ولم يجز أن يكونا مرادين وبطل أن يكون المثل من الجنس مرادا وهو أن يجب في النعامة نعامة ومن الحمار حمار - ثبت أن المثل من طريق القيمة مرادا .
وقوله تعالى : من النعم يعني أنه يصرف قيمة الصيد في النعم .
والوجه الثاني : من الاستدلال بالآية أنه قال : يحكم به ذوا عدل منكم فلو كان المراد به المثل في الصورة والشبه لم يفتقر إلى حكم عدلين : لأنه يدرك بالمشاهدة والنظر الذي يستوي فيه العادل ، والفاسق ، والعالم ، والجاهل ، فثبت أن المراد بذلك القيمة التي تفتقر إلى تقويم واجتهاد ويرجع فيها إلى العدول من أهل العلم بها .
والوجه الثالث : من الاستدلال بها : أن الله تعالى أوجب المثل في جزاء الصيد ، وهذا [ ص: 287 ] المثل في الجزاء راجع إلى جميع الصيد ، والمثل في جميعه واحد ، فلما كان المراد بالمثل - فيما ليس له من النعم مثل - القيمة دون ما كان مثلا في الشبه والصورة ؛ إذ المراد بالمثل في جميع الصيد القيمة دون ما كان مثلا في الشبه والصورة ، ولأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى مثلا واحدا لجميع الصيد ، فيجعل لمثل بعضه حكما ولمثل باقيه حكما !
وربما جوزوا هذا الاستدلال قياسا فقالوا : لأنه حيوان ممنوع من إتلافه بحرمة الإحرام
فوجب أن يجب بقتله قيمته قياسا على ما لا مثل له من العصفور وغيره .
قالوا : ولأنها عين مضمونة فوجب : إذ لم تضمن بالمثل من جنسها أن تكون مضمونة بقيمتها كسائر الأموال .
قالوا : ولأن إيجاب مثله في الشبه والصوت يفضي إلى أن يجب في متلف واحد بدلان مختلفان فيلزم من قتل صيدا مملوكا قيمته لمالكه ، وهي مثل وجزاؤه بالمثل في الشبه والصورة ، وهي مثل فيختلف المثلان في العين الواحدة : وهذا في الأصول ممتنع : والدلالة عليه قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم .
والاستدلال بها من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله تعالى أوجب المثل ، وإطلاق المثل يتناول المثل في الصورة والجنس حتى يجب في النعامة نعامة ، وفي الغزال غزال ، فلما قيد الله تعالى ذلك بالمثل من النعم انصرف المثل عن الجنس إلى المثل من النعم بقي المثل في الشبه والصورة على ما كان يقتضيه ظاهر الآية .
والوجه الثاني : من الاستدلال بها أن الله تعالى جعل المثل من النعم والقيمة إن كانت مثلا فهي من الدراهم : فلم يجز أن يعدل عما نص الله تعالى عليه من النعم إلى ما لم ينص عليه من الدراهم ، ولم يقل : " فجزاء مثل ما قتل من الدراهم " تصرف في النعم فيصح لهم المذهب .
والوجه الثالث : من الاستدلال بها : أن الله تعالى قال : يحكم به ذوا عدل منكم وذلك كناية ترجع إلى ما تقدم ، وليس يخلو أن ترجع إلى جميع ما تقدم أو إلى أقرب المذكور منه .
فإن رجعت إلى جميع ما تقدم كانت راجعة إلى المثل من النعم يحكم به ذوا عدل ، وإن رجعت إلى أقرب المذكور كانت راجعة إلى النعم ، وأبو حنيفة يقول : الكناية في قوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم ليست راجعة إلى جميع ما تقدم ولا إلى أقرب المذكور [ ص: 288 ] منه ، وإنما ترجع إلى أبعد المذكور وهو المثل دون النعم : لأن عنده أن ذوي عدل إنما يحكمان بالقيمة دون النعم .
وعندنا أنهما يحكمان بالمثل من النعم ، وما قلناه أولى بالظاهر وأحق بالتبيان .
ومن الدلالة عليه جابر أنه سئل عن الضبع : أصيد هو ؟ قال : نعم ، قيل : أيؤكل ؟ قال : نعم ، قيل : فيه كبش إذا أصابه المحرم ؟ قال : نعم ، وقيل : وسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم ، فصار كأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حديث الضبع صيد يؤكل ، وفيه كبش إذا أصابه المحرم ، وفي هذا الخبر استدلال من أربعة أوجه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب من الضبع كبشا ، وأبو حنيفة يوجب القيمة ولا يوجب الكبش .
والثاني : أنه جعل الكبش بدلا مقدرا ، والقيمة لا تتقدر وإنما تكون اجتهادا .
والثالث : أنه قدره بكبش ، جعله كل موجبه : وذلك يمنع من الزيادة عليه والنقصان منه .
والرابع : أنه نص على الكبش في جزاء الضبع وخصه من بين سائر الحيوان ، فعلم أنه يتعين في جزاء الضبع ، وأن القيمة لا تجب إذ وجبت القيمة لجاز صرفها في الكبش وغيره ، وكما كان للكبش اختصاص به .
ومن الدلالة عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ؛ وهو ما روي عن عمر وعلي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وابن الزبير ومعاوية رضي الله عنهم أنهم حكموا في قضايا مختلفة في بلدان شتى ، وأوقات متباينة في الضبع بكبش ، وفي النعامة ببدنة ، فلما اتفقت أحكامهم في البلدان المختلفة والأوقات المتباينة دل على أن الواجب فيه مثله من النعم دون قيمته : لأمرين :
أحدهما : أن القيمة قد تزيد في بلد ، وتنقص في غيره ، وتزيد في وقت وتنقص في غيره .
والثانية أنهم قد حكموا فيه بأكثر من قيمته : لأنهم حكموا في النعامة ببدنة ولا تساوي بدنة ، وحكموا في الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشا فإن قيل فيجوز أن يكون وافق قيمة الضبع في ذلك الوقت كبشا ، وقيمة النعامة بدنة .
[ ص: 289 ] قيل عن هذا جوابان :
أحدهما : لو جاز أن يوافق ذلك في وقت لجاز أن يخالفه في غيره ، وقد اتفق حكمهم في كل وقت .
والثاني : أنهم قد أوجبوا في الأرنب عناقا وفي اليربوع جفرة ، وعند أبي حنيفة لا يجوز أن يصرف قيمة الصيد في عناق ولا جفرة وإنما تصرف فيما يجوز أضحية ( وجب أن يتنوع حق الله تعالى إلى نوعين : نوع يضمن بالمثل ، ونوع يضمن بالقيمة ) .
فدل ذلك على أنهم حكموا بالمثل ، ولم يحكموا بالقيمة .
ومن الدلالة عليه من طريق المعنى أنه تكفير قتل بحيوان فوجب ألا تعتبر فيه قيمة المقتول من الحيوان قياسا على كفارة قتل الآدميين : ولأنه تكفير بحيوان وجب بحرمة الإحرام ، فوجب ألا تعتبر فيه القيمة ككفارة الأذى وغيرها من سائر الدماء : ولأن الحقوق المضمونة بالإتلاف حقان : حق لله تعالى ، وحق لآدمي . فلما كان حق الآدمي يتنوع نوعين : نوع يضمن بالمثل ، ونوع يضمن بالقيمة ، وجب أن يتنوع حق الله تعالى نوعين : نوع يضمن بالمثل ، ونوع يضمن بالقيمة .
وتحرير ذلك قياسا أنه أحد جنسي ما يضمن بالإتلاف فوجب أن يتنوع ضمانه نوعين :
مثلا وقيمة كحقوق الآدميين .
الجواب : أما استدلالهم الأول من الآية وهو قولهم : إن المثل إما أنه يكون في الصورة والجنس ، أو في القيمة .
فالجواب عنه : أن المثل إذا ورد مطلقا حمل على أحد هذين ، فأما إذا ورد مقيدا فإنه يحمل على تقييده ، وقد قيد الله تعالى ذلك بالمثل من النعم فوجب أن يحمل عليه .
وأما استدلالهم الثاني من الآية وهو قولهم : إن المثل في الصورة لا يفتقر إلى اجتهاد وعدلين : لأنه يدرك بالمشاهدة ، وإنما تفتقر إلى ذلك القيمة .
فالجواب : أن الاجتهاد في المثل في النعم أخفى من الاجتهاد في القيمة : لأن القيمة قد يعرفها سوقة الناس وعوامهم ، والمثل إنما يعرفه خواصهم وعلماؤهم ؟ فكان باجتهاد عدلين أولى .
وأما استدلالهم الثالث من الآية وهو قولهم : إن الجزاء بالمثل راجع إلى جميع الصيد ، فلما أريد ببعضه القيمة دون المثل وهو ما لا مثل له ، فكذلك ما له مثل .
[ ص: 290 ] فالجواب : أن الآية إنما تناولت من الصيد ما له مثل من النعم دون ما لا مثل له ، وإنما وجبت القيمة فيما لا مثل له بالاستدلال من الكتاب والسنة والآثار ، نص الشافعي على ذلك في كتاب " الأم " ، فلم يسلم الاستدلال ، فإن حرروه قياسا على العصفور ، فالمعنى في العصفور أنه لا مثل له من النعم : فلذلك وجبت فيه القيمة ، فأما ما له مثل من النعم فالواجب فيه المثل من النعم دون القيمة ، كما أن أموال الآدميين تجب بإتلاف ما له مثل مثله دون قيمته ، وبإتلاف ما لا مثل له القيمة .
وأما قياسهم على أموال الآدميين فباطل بقتل الحد خطأ : لأنه لا يضمن بالمثل ؛ لسقوط القود ولا بالقيمة ؛ لوجوب الدية ، وليست الدية قيمة لكونها إبلا ثم لم يسلم من هذا القدح ولم يصح الجمع بينهما من الوجه الذي ذكروا : لأن حق الله تعالى يضمن بالمال وغير المال وهو الصيام وليس كذلك حق الآدميين فاختلفا .
وأما قولهم : إن إيجاب بدلين مختلفين في متلف واحد ممتنع في الأصول .
فالجواب : أن ذلك يمتنع في الأصول إذا كانت جهة ضمانها واحدة ، فأما مع اختلاف جهة ضمانها فلا يمتنع اختلاف البدل فيهما ؛ كالقتل يضمن ببدلين مختلفين : الدية والكفارة ، على أنه لما لم يمتنع وجوب بدلين في متلف واحد ، وإن كان فيه مخالفة الأصول لم يمتنع أن يختلف البدلان وإن كان فيه مخالفة الأصول .