الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        ( والعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء ) وقال الشافعي رحمه الله : سفر المعصية لا يفيد الرخصة ; لأنها تثبت تخفيفا ; فلا تتعلق بما يوجب التغليظ . ولنا إطلاق النصوص ; ولأن نفس السفر ليس بمعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح متعلق الرخصة ، والله أعلم .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        أحاديث القصر رخصة أو عزيمة : استدل أصحابنا على أنه عزيمة ، بأحاديث : منها حديث { عائشة ، قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر }. انتهى .

                                                                                                        أخرجاه في " الصحيحين " ، وفي لفظ : قالت : { فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، فأتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى }. انتهى . زاد في لفظ : قال الزهري : فقلت لعروة : فما بال عائشة تتم في السفر ؟ ، قال : إنها تأولت كما تأول عثمان . انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ للبخاري : قالت : { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا ، فتركت صلاة السفر على الأول }. انتهى . ذكره بعد المناقب ، في " باب من أين أرخوا التاريخ " ، وهذا الرواية ترد قول من قال : إن زيادة الصلاة في الحضر كانت قبل الهجرة ، وقد تقدم في أول الصلاة . انتهى .

                                                                                                        وأجاب الخصم بأنه رأي لا رواية ، وبأنه إشارة إلى المفروض الأول ، يدل عليه أن عائشة كانت تتم في السفر .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم في " صحيحه " عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : { فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة }. انتهى . ورواه الطبراني في " معجمه " ، بلفظ : { افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر ، كما افترض في الحضر أربعا ، }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه النسائي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر ، قال : { صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم }.

                                                                                                        ورواه ابن حبان في " صحيحه " [ ص: 228 ] في النوع السادس والستين ، من القسم الثالث ، ولم يقدحه بشيء ، ولكن اعترضه النسائي في " سننه " بأن فيه انقطاعا ، فقال : وابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر انتهى وقوى ذلك بعضهم ، بأن ابن ماجه أخرجه في " سننه " عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن عمر ، فذكره ، وأجيب عن ذلك بأن مسلما حكم في " مقدمة كتابه " بسماع ابن أبي ليلى من عمر ، فقال : وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقد حفظ عن عمر بن الخطاب انتهى .

                                                                                                        ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " عن الحسين بن واقد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه ، قال : خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة ، فاستقبلنا أمير مكة ، الحديث ، بل صرح بسماعه منه في بعض طرقه ، فقال : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سمعت عمر بن الخطاب ، فذكره .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه النسائي عن { ابن عمر ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ، ونحن ضلال ، فعلمنا ، فكان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر ، }انتهى .

                                                                                                        قال في " تنقيح التحقيق " : هكذا عزاه ابن تيمية في " المنتقى " للنسائي ، ولم أجده فيه في " قصر الصلاة " . انتهى { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في " سننه " عن بقية بن الوليد عن أبي يحيى المديني عن عمرو بن شعيب عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { المتم للصلاة في السفر ، كالمقصر في الحضر }" . انتهى .

                                                                                                        واعترضه ابن الجوزي في " التحقيق " بأن بقية مدلس ، وشيخ الدارقطني فيه أحمد بن محمد بن المفلس ، وكان كذابا . انتهى .

                                                                                                        قال في " التنقيح " : اشتبه عليه ابن المفلس هذا ، بآخر ، وهو أحمد بن محمد بن الصلت بن المفلس الحماني ، وهو كذاب وضاع ، قال : والحديث لا يصح ، فإن في رواته مجهولا . انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم : احتج الشافعي وأحمد ومالك ، في أحد قوليه ، على أنه رخصة ، بحديث أخرجه مسلم في " صحيحه " عن { يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين [ ص: 229 ] كفروا } ، فقد أمن الناس ، فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته }. انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ لابن حبان في " صحيحه " : فاقبلوا رخصته ، ورواه أصحاب السنن الأربعة .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن سوادة { عن أنس بن مالك ، رجل من بني عبد الله بن كعب ، وليس بالأنصاري ، قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى ، فقال : ادن ، وكل ، فقلت : إني صائم ، فقال : إذن أخبرك عن الصوم ، إن الله وضع عن المسافر الصوم ، وشطر الصلاة ، وعن الحامل ، والمرضع الصوم ، فيا لهف نفسي أن لا أكون طعمت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم }.

                                                                                                        قال الترمذي : حديث حسن ، ولا يعرف لأنس هذا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث انتهى .

                                                                                                        ورواه أحمد في " مسنده " . والطبراني في " معجمه " .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه النسائي في " سننه " عن العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود { عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة ، قالت : يا رسول الله بأبي ، أنت وأمي قصرت وأتممت ، وأفطرت وصمت ، قال : أحسنت يا عائشة ، وما عاب علي ، }انتهى . والعلاء بن زهير ، قال فيه ابن حبان : يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات ، فبطل الاحتجاج به ، كذا قال في " كتاب الضعفاء " ، وذكره في " كتاب الثقات " أيضا ، فتناقض كلامه فيه . والله أعلم .

                                                                                                        وأخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي في " سننهما " عن العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة به ، ولفظهما ، قالت : { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان ، فأفطر ، وصمت وقصر ، وأتممت ، فقلت : بأبي وأمي أنت } ، الحديث ، قال البيهقي : إسناده صحيح ، وذكر صاحب " التنقيح " [ ص: 230 ] أن هذا المتن منكر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط . انتهى .

                                                                                                        قلت : أخرجه البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس ، قال : { حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ، واعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته }انتهى .

                                                                                                        وقال النووي في " الخلاصة " : في هذا الحديث إشكال . فإن المعروف { أنه عليه السلام لم يعتمر إلا أربع عمر . كلهن في ذي القعدة }. انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الدارقطني أيضا بالسند الأول ومتنه ، ثم قال : وإسناده حسن متصل ، فإن عبد الرحمن أدرك عائشة ، ودخل عليها ، وهو مراهق . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني أيضا عن عمرو بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ، ويتم ، ويفطر ، ويصوم }. انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : إسناده صحيح انتهى . وقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمر ودلهم بن صالح والمغيرة بن زياد ، وثلاثتهم ضعفاء عن عطاء عن عائشة ، قال : والصحيح عن عائشة موقوف ، ثم أخرجه كذلك عن شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أخي إنه لا يشق علي . انتهى . وهذا سند صحيح والله أعلم .

                                                                                                        وقد يعارض هذا بحديث أخرجه البخاري ومسلم عن حفص بن عاصم عن { ابن عمر ، قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، فلم يزد على ركعتين ، حتى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر ، فلم يزد على ركعتين ، حتى قبضه الله ، وصحبت عمر ، فلم يزد على ركعتين ، حتى قبضه الله ، وصحبت عثمان ، فلم يزد على ركعتين ، حتى قبضه الله ، وقد قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } }انتهى .

                                                                                                        قال عبد الحق : هكذا في هذه الرواية ، والصحيح أن عثمان أتم في آخر الأمر ، كما أخرجاه من رواية نافع عنه ، ومن رواية ابنه سالم أنه عليه السلام صلى صلاة المسافر بمنى : وغيره ركعتين ، وأبو بكر وعمر . وعثمان ركعتين ، صدرا من خلافته ، ثم أتمها أربعا انتهى .



                                                                                                        [ ص: 231 ] أحاديث الجمع بين الصلاتين في السفر : أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ، قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل ، فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ، ثم ركب }. انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ لهما ، قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر ، حتى يدخل أول وقت العصر ، ثم يجمع بينهما }. انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أعجل به السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب ، حتى يجمع بينهما وبين العشاء ، حتى يغيب الشفق }. انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجاه عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء }. انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ : { كان إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب ، حتى يجمع بينها ، وبين صلاة العشاء }. انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ لهما : جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها ، في غزوة تبوك ، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب ، والعشاء ، قال سعيد بن جبير : فقلت لابن عباس : ما حمله على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته }. انتهى زاد في رواية : بالمدينة من غير خوف ولا سفر ، قال أبو الزبير : فسألت سعيدا لم فعل ذلك ؟ فقال : سألت ابن عباس ، كما سألتني ، فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته ، وفي رواية : { من غير خوف ، ولا مطر }.

                                                                                                        قال البيهقي : رواية : من غير خوف ، ولا مطر ، رواها حبيب بن أبي ثابت ، وجمهور الرواة يقولون : من غير خوف ، ولا سفر ، وهو أولى أن يكون محفوظا . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل ، قال : { جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين المغرب والعشاء ، وبين الظهر والعصر ، قال : قلت : فما حمله على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته }. انتهى حديث لأصحابنا : أسند ابن الجوزي لنا في " التحقيق " بحديث أخرجه الترمذي [ ص: 232 ] عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من جمع بين صلاتين من غير عذر ، فقد أتى بابا من أبواب الكبائر }. انتهى وأخرجه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : حنش بن قيس ثقة انتهى .

                                                                                                        قال في " تنقيح التحقيق " : لم يتابع الحاكم على توثيقه ، فقد كذبه أحمد ، وقال مرة : هو متروك الحديث ، وكذلك قال النسائي والدارقطني .

                                                                                                        وقال البيهقي : تفرد به أبو علي الرحبي المعروف بحنش ، وهو ضعيف ، لا يحتج بخبره . ورواه ابن حبان في " كتاب الضعفاء " وقال : حنش بن قيس الرحبي أبو علي ولقبه حنش ، كذبه ابن حنبل ، وتركه ابن معين ، ثم روي عن الحاكم بسنده عن أبي العالية عن عمر ، قال : جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر . انتهى .

                                                                                                        قال : وأبو العالية لم يسمع من عمر ، ثم أسنده عن أبي قتادة العدوي أن عمر كتب إلى عامل له : ثلاث من الكبائر الجمع بين الصلاتين ، إلا من عذر والفرار من الزحف والنهبى ، قال وأبو قتادة أدرك عمر ، فإذا انضم هذا إلى الأول صار قويا ، قال البيهقي : قال الشافعي : والعذر يكون بالسفر والمطر ، وتأول الطحاوي في " شرح الآثار " الجمع بين الصلاتين الوارد في الحديث ، على أنه صلى الأولى في آخر وقتها ، والثانية في أول وقتها ، لا أنه صلاهما في وقت واحد وقوى ذلك بحديث أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن { عبد الله بن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها ، إلا بجمع ، فإنه جمع بين المغرب والعشاء ، بجمع ، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها }. انتهى .

                                                                                                        وبحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر ، حتى يدخل وقت صلاة أخرى } ، وأخرجه مسلم ، قال : ويؤيد ما قلناه ما أخرجه مسلم عن ابن عباس ، قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا في غير خوف ولا سفر } ، وفي لفظ : قال : { جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ، ولا مطر } ، قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك ؟ ، قال : أراد أن لا يحرج أمته ، قال : ولم يقل أحد منا ، ولا منهم ، بجواز الجمع في الحضر ، قال : فدل على أن [ ص: 233 ] معنى الجمع ما ذكرناه من تأخير الأولى ، وتعجيل الأخرى ، قال : وأما عرفة وجمع فهما مخصوصان بهذا الحكم . انتهى كلامه .




                                                                                                        الخدمات العلمية