قالوا : رويتم أن فيقول : هل من داع فأستجيب له ، أو مستغفر فأغفر له ، وينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة ، وينزل في ليلة النصف من شعبان ، الله - تبارك وتعالى - ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وهذا خلاف لقوله تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا .
وقوله - جل وعز - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، وقد أجمع الناس على أنه بكل مكان ولا يشغله شأن عن شأن .
قال أبو محمد : ونحن نقول في قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا إنه معهم بالعلم بما هم عليه ، كما تقول للرجل ، وجهته إلى بلد شاسع ووكلته بأمر من أمورك : احذر التقصير والإغفال لشيء مما [ ص: 394 ] تقدمت فيه إليك ، فإني معك . تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك ، أو جدك للإشراف عليك والبحث عن أمورك .
وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب ، فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز .
وكذلك هو بكل مكان يراد لا يخفى عليه شيء مما في الأماكن ، فهو فيها بالعلم بها والإحاطة .
وكيف يسوغ لأحد أن يقول : إنه بكل مكان على الحلول مع قوله : الرحمن على العرش استوى ، أي : استقر ، كما قال : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ، أي : استقررت .
وأما قوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، وكيف يصعد إليه شيء هو معه ؟ أو يرفع إليه عمل وهو عنده ؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه يوم القيامة وتعرج بمعنى تصعد ؟ يقال : عرج إلى السماء إذا صعد والله - عز وجل - ذو المعارج ، والمعارج : الدرج .
فما هذه الدرج ؟ وإلى من تؤدي الأعمال الملائكة إذا كان بالمحل الأعلى مثله بالمحل الأدنى ؟
ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه ، لعلموا أن الله تعالى هو العلي وهو الأعلى وهو بالمكان الرفيع ، وإن القلوب عند الذكر تسمو نحوه والأيدي ترفع بالدعاء إليه ، ومن العلو يرجى الفرج ويتوقع النصر وينزل الرزق ، [ ص: 395 ] وهنالك الكرسي والعرش والحجب والملائكة ، يقول الله - تبارك وتعالى - : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون .
وقال في الشهداء : أحياء عند ربهم يرزقون ، وقيل لهم شهداء لأنهم يشهدون ملكوت الله تعالى واحدهم شهيد ، كما يقال : عليم وعلماء ، وكفيل وكفلاء .
وقال تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ، أي : لو أردنا أن نتخذ امرأة وولدا لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم ؛ لأن زوج الرجل وولده يكونان عنده وبحضرته لا عند غيره .
والأمم كلها عربيها وعجميها تقول إن الله تعالى في السماء ، ما تركت على فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم .
وفي الحديث : هذا أو نحوه . إن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمة أعجمية للعتق فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أين الله تعالى ؟ فقالت : في السماء . قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : هي مؤمنة وأمره بعتقها
[ ص: 396 ] وقال : أمية بن أبي الصلت
مجدوا الله وهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا
س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر الع
ين ترى دونه الملائك صورا
وصور جمع أصور ، وهو المائل العنق .
وهكذا قيل في الحديث : إن حملة العرش صور ، وكل من حمل شيئا ثقيلا على كاهله ، أو على منكبه لم يجد بدا من أن يميل عنقه . وفي الإنجيل الصحيح أن المسيح - عليه السلام - قال : لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله تعالى .
وقال للحواريين : إن أنتم غفرتم للناس فإن ربكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم ، انظروا إلى طير السماء فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن ولا يجمعن في الأهواء ، وربكم الذي في السماء هو يرزقهن ، أفلستم أفضل منهن ؟ ! ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب .
وأما قوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، فليس في ذلك ما يدل على الحلول بهما ، وإنما أراد به أنه إله السماء وإله من فيها وإله الأرض وإله من فيها ، ومثل هذا من الكلام قولك : هو بخراسان أمير ، وبمصر أمير . فالإمارة تجتمع له فيهما وهو حال بإحداهما أو بغيرهما ، وهذا واضح لا يخفى .
[ ص: 397 ] فإن قيل لنا : كيف النزول منه - جل وعز - ؟ قلنا : لا نحتم على النزول منه بشيء ، ولكنا نبين كيف النزول منا وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ ، والله أعلم بما أراد .
والنزول منا يكون بمعنيين أحدهما الانتقال عن مكان إلى مكان ، كنزولك من الجبل إلى الحضيض ، ومن السطح إلى الدار .
والمعنى الآخر إقبالك على الشيء بالإرادة والنية ، وكذلك الهبوط والارتقاء والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام .
ومثال ذلك أن يسألك سائل عن محال قوم من الأعراب وهو لا يريد المصير إليهم ، فتقول له : إذا صرت إلى جبل كذا فانزل منه وخذ يمينا ، وإذا صرت إلى وادي كذا فاهبط فيه ، ثم خذ شمالا ، وإذا صرت إلى أرض كذا فاعتل هضبة هناك حتى تشرف عليهم ، وأنت لا تريد في شيء مما تقوله افعله ببدنك ، إنما تريد افعله بنيتك وقصدك .
وقد يقول القائل : بلغت إلى الأحرار تشتمهم وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم وجئت إلى العلم تزهد فيه ونزلت عن معالي الأخلاق إلى الدناءة ، وليس يراد في شيء من هذا انتقال الجسم ، وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم والنية ، وكذلك قوله - جل وعز - : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
[ ص: 398 ] لا يريد أنه معهم بالحلول ، ولكن بالنصرة والتوفيق والحياطة .
وكذلك قوله تعالى : ( ) . من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة
قال أبو محمد : وحدثنا عبد المنعم ، عن أبيه ، عن أن وهب بن منبه موسى - صلى الله عليه وسلم - لما نودي من الشجرة اخلع نعليك أسرع الإجابة وتابع التلبية ، وما كان ذلك إلا استئناسا منه بالصوت وسكونا إليه ، وقال : إني أسمع صوتك وأحس وجسك ولا أرى مكانك فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك من نفسك .
يريد إني أعلم بك منك بنفسك ؛ لأنك إذا نظرت إلى ما بين يديك خفي عنك ما وراءك ، وإذا سموت بطرفك إلى ما فوقك ذهب عنك علم ما تحتك ، وأنا لا تخفى علي خافية منك في جميع أحوالك ، ونحو هذا قول رابعة العابدة : شغلوا قلوبهم عن الله - عز وجل - بحب الدنيا ، ولو تركوها لجالت في الملكوت ثم رجعت إليهم بطرف الفوائد .
ولم ترد أن أبدانهم وقلوبهم تجول في السماء بالحلول ، ولكن تجول هناك بالفكرة والقصد والإقبال ، وكذلك قول أبي مهدية الأعرابي : اطلعت في النار فرأيت الشعراء لهم كصيص ، يعني التواء ، وأنشد :
[ ص: 399 ]
جنادبها صرعى لهن كصيص
أي : التواء .
ولو قال قائل في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن اطلاعه فيهما كان بالفكر والإقبال ، كان تأويلا حسنا . اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها البله ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء