فصل .
لما ثبت كون
nindex.php?page=treesubj&link=25029_20759القرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز ، وقد خاض الناس في ذلك كثيرا فبين محسن ومسيء .
فزعم قوم أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، وأن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق ، وبه وقع عجزها ، وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به .
والصواب ما قاله الجمهور : أنه وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ ، ثم زعم النظام أن إعجازه بالصرفة أي : أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم ، وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات .
وهذا قول فاسد بدليل
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن [ الإسراء : 88 ] . الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز بل
[ ص: 242 ] المعجز هو الله تعالى ، حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله .
وأيضا فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي ، وخلو القرآن من الإعجاز ، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية ، ولا معجزة باقية سوى القرآن .
قال
القاضي أبو بكر : ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون بالمنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه ، قال : وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم إن الكل قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ، ولا بأعجب من قول آخرين : إن العجز وقع منهم ، وإنما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله ، وكل هذا لا يعتد به .
وقال قوم : وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب .
وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها .
وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=122إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا [ آل عمران : 122 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله [ المجادلة : 8 ] .
وقال
القاضي أبو بكر : وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم ، قال : ولهذا لم يمكنهم معارضته .
قال : ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر ، لأنه ليس مما يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به ، كقول الشعر ، ورصف الخطب وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة ، وله طريق تسلك فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا ، قال : ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر ، وفي بعضه أدق وأغمض .
[ ص: 243 ] وقال
الإمام فخر الدين : وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب ، والسلامة من جميع العيوب .
وقال
الزملكاني : وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة ، وعلت مركباته معنى بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى .
وقال
ابن عطية : الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه ، وذلك أن الله أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول .
ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة .
وبهذا يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك ، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ، ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا ، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق ، وجودة القريحة .
وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ، ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة
موسى بالسحرة ، وفي معجزة
عيسى بالأطباء ، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما تكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره ، فكان السحر قد انتهى في مدة
موسى إلى غايته ، وكذلك الطب في زمن
عيسى والفصاحة في زمن
محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال
حازم في منهاج البلغاء : وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت
[ ص: 244 ] الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر ، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه ، إلا في الشيء اليسير المعدود ، ثم تعرض الفترات الإنسانية ، فينقطع طيب الكلام ورونقه ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه بل توجد في تفاريق وأجزاء منه .
وقال
المراكشي في شرح المصباح : الجهة المعجزة في القرآن تعرف بالتفكر في علم البيان ، وهو كما اختاره جماعة في تعريفه ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى ، وعن تعقيده ويعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال; لأن جهة إعجازه ليست مفردات ألفاظه وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ، ولا مجرد تأليفها ، وإلا لكان كل تأليف معجزا ، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزا ، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزا ، والأسلوب الطريق ، ولكان هذيان
مسيلمة معجزا ، ولأن الإعجاز يوجد دونه أي : الأسلوب في نحو :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=80فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [ يوسف : 80 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فاصدع بما تؤمر [ الحجر : 94 ] .
ولا بالصرف عن معارضتهم; لأن تعجبهم كان من فصاحته ، ولأن
مسيلمة وابن المقفع والمعري وغيرهم قد تعاطوها ، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع ، وتنفر منه الطباع ، ويضحك منه في أحوال تركيبه ، وبها - أي : بتلك الأحوال - أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء ، فعلى إعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى ، ودليل تفصيلي مقدمته التفكر في خواص تركيبه ، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شيء علما .
وقال
الأصبهاني في تفسيره : اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين : أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه ، والثاني بصرف الناس عن معارضته .
فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه .
أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى ، فإن ألفاظه ألفاظهم ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي [ الشعراء : 195 ] . ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة ، قال تعالى :
[ ص: 245 ] nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=196وإنه لفي زبر الأولين [ الشعراء : 196 ] . وما هو في القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب ، فإعجاز ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن ، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم ، ويكون الإخبار بالغيب إخبارا بالغيب سواء كان بهذا النظم أو بغيره ، موردا بالعربية أو بلغة أخرى ، بعبارة أو بإشارة ، فإذا النظم المخصوص صورة القرآن واللفظ والمعنى عنصره ، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه ، لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار ، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها ، لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد ، فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتما ، وإن كان العنصر مختلفا ، وإن اتخذ خاتم وقرط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها ، وإن كان العنصر واحدا .
قال : فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص ، وبيان كون النظم معجزا يتوقف على بيان نظم الكلام ، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه ، فنقول : مراتب تأليف الكلام خمس :
الأولى : ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث : الاسم والفعل والحرف .
والثانية : تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض ، لتحصل الجمل المفيدة ، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم ، وقضاء حوائجهم ، ويقال له المنثور من الكلام .
والثالثة : ضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ، ومداخل ومخارج ، ويقال له المنظوم .
والرابعة : أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ، ويقال له المسجع .
والخامسة : أن يجعل له مع ذلك وزن ، ويقال له : الشعر .
والمنظوم إما محاورة ويقال له : الخطابة ، وإما مكاتبة ويقال له : الرسالة .
فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ، ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها ، يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له : رسالة ، أو خطابة ، أو شعر ، أو سجع ، كما يصح أن يقال : هو كلام والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا قال تعالى :
[ ص: 246 ] nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=41وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [ فصلت : 41 ، 42 ] . تنبيها على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر .
قال : وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته ، فظاهر أيضا إذا اعتبر وذلك أنه ما من صناعة محمودة كانت أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية ، واتفاقات حملية بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها ، وتطيعه قواه في مباشرتها فيقبلها بانشراح صدر ، ويزاولها باتساع قلب ، فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، ولم يتصدوا لمعارضته لم يخف على أولي الألباب أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزة في الظاهر عن معارضته مصروفة في الباطن عنها انتهى .
وقال
السكاكي في المفتاح : اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ، وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11992أبو حيان التوحيدي : سئل
بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن ، فقال : هذه مسألة فيها حيف على المعنى ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان ؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ، ودللت على ذاته ، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء فيه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ، ومعجزة لمحاوله ، وهدى لقائله ، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه ، وأسراره في كتابه ، فلذلك حارت العقول ، وتاهت البصائر عنده .
وقال
الخطابي : ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق .
قال : والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها في درجات البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز الطلق الرسل ، وهذه
[ ص: 247 ] nindex.php?page=treesubj&link=25029_20759أقسام الكلام الفاضل المحمود .
فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها .
فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت من كل نوع شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الزعورة ، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن ليكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم .
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور .
منها : أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها ، وارتباط بعضها ببعض فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله ، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة :
لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا ، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه . وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته .
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام ، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه : فلم توجد إلا في كلام العليم القدير ، فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا; لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف ، مضمنا أصح المعاني ، من توحيد الله تعالى وتنزيهه له في صفاته ، ودعائه إلى طاعته وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن مضى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان ، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له ، والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه .
[ ص: 248 ] ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ، أو مناقضته في شكله ، ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما ، ومرة أنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه ، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ، ولذلك قالوا : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وكانوا مرة بجهلهم يقولون :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ الفرقان : 5 ] . مع علمهم أن صاحبهم أمي ، وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز .
ثم قال : وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب ، وتأثيره في النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا ، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ذوي الروعة والمهابة في حال آخر ، ما يخلص منه إليه قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ الحشر : 21 ] . وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم [ الزمر : 23 ] .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13215ابن سراقة : اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصواب ، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره .
فقال قوم : هو الإيجاز مع البلاغة .
وقال آخرون : هو البيان والفصاحة .
وقال آخرون : هو الرصف والنظم .
وقال آخرون : هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم ، وألفاظه من جنس كلماتهم ، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم ، وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم ، حتى إن من اقتصر على معانيه ، وغير حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه ، أبطل فائدته ، فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه .
وقال آخرون : هو كون قارئه لا يكل ، وسامعه لا يمل ، وإن تكررت عليه تلاوته .
وقال آخرون : هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية .
[ ص: 249 ] وقال آخرون : هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع .
وقال آخرون : هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشق حصرها . انتهى .
وقال
الزركشي في البرهان : أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال ، لا بكل واحد على انفراده ، فإنه جمع ذلك كله ، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع ، بل وغير ذلك مما لم يسبق .
فمنها : الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم ، سواء المقر والجاحد .
ومنها : أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين .
ومنها : جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة ، وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر .
ومنها : جعله آخر الكتب غنيا عن غيره ، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=76إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ النمل : 76 ] .
وقال
الرماني :
nindex.php?page=treesubj&link=20759_25029وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة ، مع توفر الدواعي وشدة الحاجة ، والتحدي للكافة ، والصرفة ، والبلاغة ، والإخبار عن الأمور المستقبلة ، ونقض العادة ، وقياسه بكل معجزة .
قال : ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة : منها الشعر ، ومنها السجع ، ومنها الخطب ، ومنها الرسائل ، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث ، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة ، ويفوق الموزون الذي هو أحسن الكلام .
قال : وأما قياسه بكل معجزة ، فإنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية ، وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلا واحدا في الإعجاز ، إذ خرج عن العادة ، وصد الخلق فيه عن المعارضة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في الشفا : اعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=20759_25029القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه .
[ ص: 250 ] أولها : حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ، ووجوه إيجازه ، وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام ، وأرباب هذا الشأن .
والثاني : صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ، ووقفت عليه مقاطع آياته ، وانتهت إليه فواصل كلماته ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له .
قال : وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها ، والأسلوب الغريب بذاته ، نوع إعجاز على التحقيق ، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذ كل واحد خارج عن قدرتها ، مباين لفصاحتها وكلامها ، خلافا لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب .
الثالث : ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد .
الرابع : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة ، والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به على نصه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب .
قال : فهذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها .
ومن الوجوه في إعجازه غير ذلك أي : وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك ، كقوله
لليهود :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=94فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا [ البقرة : 94 ، 95 ] . فما تمناه أحد منهم وهذا الوجه داخل في الوجه الثالث .
ومنها : الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته ، وقد أسلم جماعة عند سماع آيات منه ، كما وقع
nindex.php?page=showalam&ids=67لجبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال : فلما بلغ هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=37المصيطرون [ الطور : 35 - 37 ] . كاد قلبي أن يطير ، قال : وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي .
[ ص: 251 ] وقد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف .
ثم قال : ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل الله بحفظه .
ومنها : أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد ، ويمل مع الترديد ، ولهذا وصف صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979756لا يخلق على كثرة الرد .
ومنها : جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة . قال : وهذا الوجه داخل في بلاغته فلا يجب أن يعد فنا مفردا في إعجازه .
قال : والأوجه التي قبلها تعد في خواصه وفضائله لا إعجازه ، وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة الأول فليعتمد عليها انتهى .
فَصْلٌ .
لَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ
nindex.php?page=treesubj&link=25029_20759الْقُرْآنِ مُعْجِزَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ الِاهْتِمَامُ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ ، وَقَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا فَبَيْنَ مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ .
فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّحَدِّيَ وَقَعَ بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الذَّاتِ ، وَأَنَّ الْعَرَبَ كُلِّفَتْ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُطَاقُ ، وَبِهِ وَقَعَ عَجْزُهَا ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَا يُتَصَوَّرُ التَّحَدِّيَ بِهِ .
وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ : أَنَّهُ وَقَعَ بِالدَّالِّ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ ، ثُمَّ زَعَمَ النَّظَّامُ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِالصِّرْفَةِ أَيْ : أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ عُقُولَهُمْ ، وَكَانَ مَقْدُورًا لَهُمْ لَكِنْ عَاقَهُمْ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ .
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِدَلِيلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [ الْإِسْرَاءِ : 88 ] . الْآيَةَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِهِمْ مَعَ بَقَاءِ قُدْرَتِهِمْ وَلَوْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ لَمْ تَبْقَ فَائِدَةٌ لِاجْتِمَاعِهِمْ لِمَنْزِلَتِهِ مَنْزِلَةَ اجْتِمَاعِ الْمَوْتَى ، وَلَيْسَ عَجْزُ الْمَوْتَى مِمَّا يُحْتَفَلُ بِذِكْرِهِ ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِضَافَةِ الْإِعْجَازِ إِلَى الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ إِعْجَازٍ بَلِ
[ ص: 242 ] الْمُعْجِزُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، حَيْثُ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ .
وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالصِّرْفَةِ زَوَالُ الْإِعْجَازِ بِزَوَالِ زَمَانِ التَّحَدِّي ، وَخُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ ، وَفِي ذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ مُعْجِزَةً الرَّسُولِ الْعُظْمَى بَاقِيَةٌ ، وَلَا مُعْجِزَةَ بَاقِيَةً سِوَى الْقُرْآنِ .
قَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : وَمِمَّا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالصِّرْفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا الصِّرْفَةُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مُعْجِزًا ، فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ ، قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرُوا عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ بِهِ ، وَلَا بِأَعْجَبِ مِنْ قَوْلِ آخَرِينَ : إِنَّ الْعَجْزَ وَقَعَ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا مَنْ بَعْدَهُمْ فَفِي قُدْرَتِهِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ ، وَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=122إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا [ آلِ عِمْرَانَ : 122 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=8وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [ الْمُجَادَلَةِ : 8 ] .
وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ ، قَالَ : وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ .
قَالَ : وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي الشِّعْرِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ بِهِ ، كَقَوْلِ الشِّعْرِ ، وَرَصْفِ الْخُطَبِ وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ ، وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ ، وَلَهُ طَرِيقٌ تُسْلَكُ فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى ، وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا ، قَالَ : وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ أَظْهَرُ ، وَفِي بَعْضِهِ أَدَقُّ وَأَغْمَضُ .
[ ص: 243 ] وَقَالَ
الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ : وَجْهُ الْإِعْجَازِ الْفَصَاحَةُ وَغَرَابَةُ الْأُسْلُوبِ ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ .
وَقَالَ
الزَّمَلْكَانِيُّ : وَجْهُ الْإِعْجَازِ رَاجِعٌ إِلَى التَّأْلِيفِ الْخَاصِّ بِهِ لَا مُطْلَقِ التَّأْلِيفِ بِأَنِ اعْتَدَلَتْ مُفْرَدَاتُهُ تَرْكِيبًا وَزِنَةً ، وَعَلَتْ مُرَكَّبَاتُهُ مَعْنًى بِأَنْ يُوقَعَ كُلُّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ الْعُلْيَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى .
وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : الصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَالْحُذَّاقُ فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ أَنَّهُ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا فَإِذَا تَرَتَّبَتِ اللَّفْظَةُ مِنَ الْقُرْآنِ ، عُلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيُّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ ، وَالْبَشَرُ يَعُمُّهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ .
وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يُحِيطُ بِذَلِكَ ، فَبِهَذَا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْفَصَاحَةِ .
وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ فِي قُدْرَتِهَا الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَصُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ قَطُّ ، وَلِهَذَا تَرَى الْبَلِيغَ يُنَقِّحُ الْقَصِيدَةَ أَوِ الْخُطْبَةَ حَوْلًا ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهَا فَيُغَيِّرُ فِيهَا وَهَلُمَّ جَرًّا ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ نُزِعَتْ مِنْهُ لَفْظَةٌ ثُمَّ أُدِيرَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَلَى لَفْظَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ ، وَنَحْنُ تَتَبَيَّنُ لَنَا الْبَرَاعَةُ فِي أَكْثَرِهِ ، وَيَخْفَى عَلَيْنَا وَجْهُهَا فِي مَوَاضِعَ لِقُصُورِنَا عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ فِي سَلَامَةِ الذَّوْقِ ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ .
وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَالَمِ بِالْعَرَبِ إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ ، وَمَظَنَّةَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي مُعْجِزَةِ
مُوسَى بِالسَّحَرَةِ ، وَفِي مُعْجِزَةِ
عِيسَى بِالْأَطِبَّاءِ ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ الَّذِي أَرَادَ إِظْهَارَهُ ، فَكَانَ السِّحْرُ قَدِ انْتَهَى فِي مُدَّةِ
مُوسَى إِلَى غَايَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الطِّبُّ فِي زَمَنِ
عِيسَى وَالْفَصَاحَةُ فِي زَمَنِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ
حَازِمٌ فِي مِنْهَاجٍ الْبُلَغَاءِ : وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ اسْتَمَرَّتِ
[ ص: 244 ] الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي جَمِيعِهِ اسْتِمْرَارًا لَا يُوجَدُ لَهُ فَتْرَةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ ، وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ لَا تَسْتَمِرُّ الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ فِي جَمِيعِ أَنْحَائِهَا فِي الْعَالِي مِنْهُ ، إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْمَعْدُودِ ، ثُمَّ تَعْرِضُ الْفَتَرَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ ، فَيَنْقَطِعُ طَيِّبُ الْكَلَامِ وَرَوْنَقُهُ ، فَلَا تَسْتَمِرُّ لِذَلِكَ الْفَصَاحَةُ فِي جَمِيعِهِ بَلْ تُوجَدُ فِي تَفَارِيقَ وَأَجْزَاءٍ مِنْهُ .
وَقَالَ
الْمُرَّاكِشِيُّ فِي شَرْحِ الْمِصْبَاحِ : الْجِهَةُ الْمُعْجِزَةُ فِي الْقُرْآنِ تُعْرَفُ بِالتَّفَكُّرِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ ، وَهُوَ كَمَا اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنِ الْخَطَأِ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى ، وَعَنْ تَعْقِيدِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الْكَلَامِ بَعْدَ رِعَايَةِ تَطْبِيقِهِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ; لِأَنَّ جِهَةَ إِعْجَازِهِ لَيْسَتْ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَإِلَّا لَكَانَتْ قَبْلَ نُزُولِهِ مُعْجِزَةً ، وَلَا مُجَرَّدَ تَأْلِيفِهَا ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ تَأْلِيفٍ مُعْجِزًا ، وَلَا إِعْرَابَهَا وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ مُعْرَبٍ مُعْجِزًا ، وَلَا مُجَرَّدَ أُسْلُوبِهِ وَإِلَّا لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأُسْلُوبِ الشِّعْرِ مُعْجِزًا ، وَالْأُسْلُوبُ الطَّرِيقُ ، وَلَكَانَ هَذَيَانُ
مُسَيْلِمَةَ مُعْجِزًا ، وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ يُوجَدُ دُونَهُ أَيِ : الْأُسْلُوبَ فِي نَحْوِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=80فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [ يُوسُفَ : 80 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [ الْحِجْرِ : 94 ] .
وَلَا بِالصَّرْفِ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ; لِأَنَّ تَعَجُّبَهُمْ كَانَ مِنْ فَصَاحَتِهِ ، وَلِأَنَّ
مُسَيْلِمَةَ وَابْنَ الْمُقَفَّعِ وَالْمَعَرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ قَدْ تَعَاطَوْهَا ، فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِمَا تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ ، وَيُضْحَكُ مِنْهُ فِي أَحْوَالِ تَرْكِيبِهِ ، وَبِهَا - أَيْ : بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ - أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ وَأَخْرَسَ الْفُصَحَاءَ ، فَعَلَى إِعْجَازِهِ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ عَجَزَتْ عَنْهُ وَهُوَ بِلِسَانِهَا فَغَيْرُهَا أَحْرَى ، وَدَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ مُقَدِّمَتُهُ التَّفَكُّرُ فِي خَوَاصِّ تَرْكِيبِهِ ، وَنَتِيجَتُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .
وَقَالَ
الْأَصْبِهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا إِعْجَازٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ ، وَالثَّانِي بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ .
فَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ .
أَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِعُنْصُرِهِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ، فَإِنَّ أَلْفَاظَهُ أَلْفَاظُهُمْ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=2قُرْآنًا عَرَبِيًّا [ يُوسُفَ : 2 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ [ الشُّعَرَاءِ : 195 ] . وَلَا بِمَعَانِيهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 245 ] nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=196وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 196 ] . وَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَبَيَانِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ ، فَإِعْجَازٌ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قُرْآنٌ ، بَلْ لِكَوْنِهَا حَاصِلَةٌ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْلِيمٍ وَتَعَلُّمٍ ، وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ سَوَاءً كَانَ بِهَذَا النَّظْمِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، مُورَدًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى ، بِعِبَارَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ ، فَإِذًا النَّظْمُ الْمَخْصُوصُ صُورَةُ الْقُرْآنِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى عُنْصُرُهُ ، وَبِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّيْءِ وَاسْمُهُ ، لَا بِعُنْصُرِهِ كَالْخَاتَمِ وَالْقُرْطِ وَالسُّوَارِ ، فَإِنَّهُ بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا ، لَا بِعُنْصُرِهَا الَّذِي هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَدِيدُ ، فَإِنَّ الْخَاتَمَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الْفِضَّةِ وَمِنَ الْحَدِيدِ يُسَمَّى خَاتَمًا ، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ مُخْتَلِفًا ، وَإِنِ اتُّخِذَ خَاتَمٌ وَقُرْطٌ وَسُوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْعُنْصُرُ وَاحِدًا .
قَالَ : فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِعْجَازَ الْمُخْتَصَّ بِالْقُرْآنِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ الْمَخْصُوصِ ، وَبَيَانَ كَوْنِ النَّظْمِ مُعْجِزًا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ نَظْمِ الْكَلَامِ ، ثُمَّ بَيَانِ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ مُخَالِفٌ لِنَظْمِ مَا عَدَاهُ ، فَنَقُولُ : مَرَاتِبُ تَأْلِيفِ الْكَلَامِ خَمْسٌ :
الْأُولَى : ضَمُّ الْحُرُوفِ الْمَبْسُوطَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ لِتَحْصُلَ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ : الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ .
وَالثَّانِيَةُ : تَأْلِيفُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ ، لِتَحْصُلَ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ ، وَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْثُورُ مِنَ الْكَلَامِ .
وَالثَّالِثَةُ : ضَمُّ بَعْضِ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ ضَمًّا لَهُ مَبَادٍ وَمَقَاطِعُ ، وَمَدَاخِلُ وَمَخَارِجُ ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَنْظُومُ .
وَالرَّابِعَةُ : أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ تَسْجِيعٌ ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُسَجَّعُ .
وَالْخَامِسَةُ : أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ وَزْنٌ ، وَيُقَالَ لَهُ : الشِّعْرُ .
وَالْمَنْظُومُ إِمَّا مُحَاوَرَةٌ وَيُقَالُ لَهُ : الْخَطَابَةُ ، وَإِمَّا مُكَاتَبَةٌ وَيُقَالُ لَهُ : الرِّسَالَةُ .
فَأَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ نَظْمٌ مَخْصُوصٌ ، وَالْقُرْآنُ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْجَمِيعِ عَلَى نَظْمٍ غَيْرِ نَظْمِ شَيْءٍ مِنْهَا ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ : رِسَالَةٌ ، أَوْ خَطَابَةٌ ، أَوْ شِعْرٌ ، أَوْ سَجْعٌ ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هُوَ كَلَامٌ وَالْبَلِيغُ إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنَ النَّظْمِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 246 ] nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=41وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [ فُصِّلَتْ : 41 ، 42 ] . تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَهُ لَيْسَ عَلَى هَيْئَةِ نَظْمٍ يَتَعَاطَاهُ الْبَشَرُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّرَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَحَالَةِ الْكُتُبِ الْأُخَرِ .
قَالَ : وَأَمَّا الْإِعْجَازُ الْمُتَعَلِّقُ بِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ ، فَظَاهِرٌ أَيْضًا إِذَا اعْتُبِرَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ صِنَاعَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَتْ أَوْ مَذْمُومَةٍ إِلَّا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مُنَاسَبَاتٌ خَفِيَّةٌ ، وَاتِّفَاقَاتٌ حَمْلِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُؤْثِرُ حِرْفَةً مِنَ الْحِرَفِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِمُلَابَسَتِهَا ، وَتُطِيعُهُ قُوَاهُ فِي مُبَاشَرَتِهَا فَيَقْبَلُهَا بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ ، وَيُزَاوِلُهَا بِاتِّسَاعِ قَلْبٍ ، فَلَمَّا دَعَا اللَّهُ أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَالْخَطَابَةِ الَّذِينَ يَهِيمُونَ فِي كُلِّ وَادٍ مِنَ الْمَعَانِي بِسَلَاطَةِ لِسَانِهِمْ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ ، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَلَمْ يَتَصَدَّوْا لِمُعَارَضَتِهِ لَمْ يَخْفَ عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ أَنَّ صَارِفًا إِلَهِيًّا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، وَأَيُّ إِعْجَازٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافَّةُ الْبُلَغَاءِ عَجَزَةً فِي الظَّاهِرِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَصْرُوفَةً فِي الْبَاطِنِ عَنْهَا انْتَهَى .
وَقَالَ
السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ : اعْلَمْ أَنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا ، وَكَالْمَلَاحَةِ ، وَكَمَا يُدْرَكُ طَيِّبُ النَّغَمِ الْعَارِضِ لِهَذَا الصَّوْتِ ، وَلَا يُدْرَكُ تَحْصِيلُهُ لِغَيْرِ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ إِلَّا بِإِتْقَانِ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالتَّمْرِينِ فِيهِمَا .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11992أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ : سُئِلَ
بُنْدَارٌ الْفَارِسِيُّ عَنْ مَوْضِعِ الْإِعْجَازِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَيْفٌ عَلَى الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِكَ : مَا مَوْضِعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ ؟ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مَتَى أَشَرْتَ إِلَى جُمْلَتِهِ فَقَدْ حَقَّقْتَهُ ، وَدَلَّلْتَ عَلَى ذَاتِهِ ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ فِيهِ إِلَّا وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى آيَةً فِي نَفْسِهِ ، وَمُعْجِزَةً لِمُحَاوَلِهِ ، وَهُدًى لِقَائِلِهِ ، وَلَيْسَ فِي طَاقَةِ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِأَغْرَاضِ اللَّهِ فِي كَلَامِهِ ، وَأَسْرَارِهِ فِي كِتَابِهِ ، فَلِذَلِكَ حَارَتِ الْعُقُولُ ، وَتَاهَتِ الْبَصَائِرُ عِنْدَهُ .
وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ : ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُهَا وَصَغَوْا فِيهِ إِلَى حُكْمِ الذَّوْقِ .
قَالَ : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَجْنَاسَ الْكَلَامِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَمَرَاتِبَهَا فِي دَرَجَاتِ الْبَيَانِ مُتَفَاوِتَةٌ ، فَمِنْهَا الْبَلِيغُ الرَّصِينُ الْجَزْلُ ، وَمِنْهَا الْفَصِيحُ الْقَرِيبُ السَّهْلُ ، وَمِنْهَا الْجَائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ ، وَهَذِهِ
[ ص: 247 ] nindex.php?page=treesubj&link=25029_20759أَقْسَامُ الْكَلَامِ الْفَاضِلِ الْمَحْمُودِ .
فَالْأَوَّلُ أَعْلَاهَا وَالثَّانِي أَوْسَطُهَا وَالثَّالِثُ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا .
فَحَازَتْ بَلَاغَاتُ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حِصَّةً ، وَأَخَذَتْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً فَانْتَظَمَ لَهَا بِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ نَمَطٌ مِنَ الْكَلَامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الْفَخَامَةِ وَالْعُذُوبَةِ ، وَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي نُعُوتِهِمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ ، لِأَنَّ الْعُذُوبَةَ نِتَاجُ السُّهُولَةِ ، وَالْجَزَالَةَ وَالْمَتَانَةَ يُعَالِجَانِ نَوْعًا مِنَ الزُّعُورَةِ ، فَكَانَ اجْتِمَاعُ الْأَمْرَيْنِ فِي نَظْمِهِ مَعَ نُبُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِهَا الْقُرْآنُ لِيَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَى الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ .
مِنْهَا : أَنَّ عِلْمَهُمْ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَوْضَاعِهَا الَّتِي هِيَ ظُرُوفُ الْمَعَانِي ، وَلَا تُدْرِكُ أَفْهَامُهُمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ الْمَحْمُولَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ ، وَلَا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ ائْتِلَافُهَا ، وَارْتِبَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَيَتَوَاصَلُوا بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأَحْسَنِ مِنْ وُجُوهِهَا إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ :
لَفْظٌ حَاصِلٌ ، وَمَعْنًى بِهِ قَائِمٌ ، وَرِبَاطٌ لَهُمَا نَاظِمٌ ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ هَذِهِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ ، حَتَّى لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَفْصَحَ وَلَا أَجْزَلَ وَلَا أَعْذَبَ مِنْ أَلْفَاظِهِ ، وَلَا تَرَى نَظْمًا أَحْسَنَ تَأْلِيفًا ، وَأَشَدَّ تَلَاؤُمًا وَتَشَاكُلًا مِنْ نَظْمِهِ . وَأَمَّا مَعَانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ فِي أَبْوَابِهِ وَالتَّرَقِّي إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِ .
وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ ، فَأَمَّا أَنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ : فَلَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي كَلَامِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ ، فَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا صَارَ مُعْجِزًا; لِأَنَّهُ جَاءَ بِأَفْصَحِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ ، مُضَمَّنًا أَصَحَّ الْمَعَانِي ، مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ لَهُ فِي صِفَاتِهِ ، وَدُعَائِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَبَيَانٍ لِطَرِيقِ عِبَادَتِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ ، وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ ، وَمِنْ وَعْظٍ وَتَقْوِيمٍ ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ ، وَإِرْشَادٍ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ ، وَزَجْرٍ عَنْ مَسَاوِيهَا ، وَاضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا مَوْضِعَهُ الَّذِي لَا يُرَى شَيْءٌ أَوْلَى مِنْهُ ، وَلَا يُتَوَهَّمُ فِي صُورَةِ الْعَقْلِ أَمْرٌ أَلْيَقُ بِهِ مِنْهُ ، مُودَعًا أَخْبَارَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا نَزَلَ مِنْ مَثُلَاتِ اللَّهِ بِمَنْ مَضَى وَعَانَدَ مِنْهُمْ ، مُنْبِئًا عَنِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبِلَةِ فِي الْأَعْصَارِ الْآتِيَةِ مِنَ الزَّمَانِ ، جَامِعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالْمُحْتَجِّ لَهُ ، وَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آكَدَ لِلُزُومِ مَا دَعَا عَلَيْهِ ، وَإِنْبَاءٍ عَنْ وُجُوبِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ .
[ ص: 248 ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَشْتَاتِهَا حَتَّى تَنْتَظِمَ وَتُنَسَّقَ أَمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْبَشَرِ ، وَلَا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهُمْ ، فَانْقَطَعَ الْخَلْقُ دُونَهُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ مُنَاقَضَتِهِ فِي شَكْلِهِ ، ثُمَّ صَارَ الْمُعَانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً : إِنَّهُ شِعْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَنْظُومًا ، وَمَرَّةً أَنَّهُ سِحْرٌ لَمَّا رَأَوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ لَهُ وَقْعًا فِي الْقُلُوبِ وَقَرْعًا فِي النُّفُوسِ يُرْهِبُهُمْ وَيُحَيِّرُهُمْ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرَافِ ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ، وَكَانُوا مَرَّةً بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ الْفُرْقَانِ : 5 ] . مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أُمِّيٌّ ، وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُمْلِي أَوْ يَكْتُبُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الْعِنَادُ وَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ قُلْتُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَجْهًا ذَهَبَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ صَنِيعُهُ فِي الْقُلُوبِ ، وَتَأْثِيرُهُ فِي النُّفُوسِ ، فَإِنَّكَ لَا تَسْمَعُ كَلَامًا غَيْرَ الْقُرْآنِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا ، إِذَا قَرَعَ السَّمْعَ خَلَصَ لَهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ فِي حَالِ ذَوِي الرَّوْعَةِ وَالْمَهَابَةِ فِي حَالٍ آخَرَ ، مَا يَخْلُصُ مِنْهُ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=21لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ الْحَشْرِ : 21 ] . وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [ الزُّمَرِ : 23 ] .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13215ابْنُ سُرَاقَةَ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَجْهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهًا كَثِيرَةً كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ ، وَمَا بَلَغُوا فِي وُجُوهِ إِعْجَازِهِ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْ عُشْرِ مِعْشَارِهِ .
فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْإِيجَازُ مَعَ الْبَلَاغَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الْبَيَانُ وَالْفَصَاحَةُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الرَّصْفُ وَالنَّظْمُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ كَوْنُهُ خَارِجًا عَنْ جِنْسِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ مَعَ كَوْنِ حُرُوفِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَمَعَانِيهِ فِي خِطَابِهِمْ ، وَأَلْفَاظِهِ مِنْ جِنْسِ كَلِمَاتِهِمْ ، وَهُوَ بِذَاتِهِ قَبِيلٌ غَيْرُ قَبِيلِ كَلَامِهِمْ ، وَجِنْسٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ أَجْنَاسِ خِطَابِهِمْ ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَعَانِيهِ ، وَغَيَّرَ حُرُوفَهُ أَذْهَبَ رَوْنَقَهُ ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى حُرُوفِهِ وَغَيَّرَ مَعَانِيهِ ، أَبْطَلَ فَائِدَتَهُ ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَبْلَغَ دَلَالَةً عَلَى إِعْجَازِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ كَوْنُ قَارِئِهِ لَا يَكِلُّ ، وَسَامِعُهُ لَا يَمَلُّ ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِ تِلَاوَتُهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ .
[ ص: 249 ] وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ بِالْقَطْعِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ كَوْنُهُ جَامِعًا لِعُلُومٍ يَطُولُ شَرْحُهَا وَيَشُقُّ حَصْرُهَا . انْتَهَى .
وَقَالَ
الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ : أَهْلُ التَّحْقِيقِ عَلَى أَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ بِجَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَقْوَالِ ، لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَإِنَّهُ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَلَا مَعْنًى لِنِسْبَتِهِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْجَمِيعِ ، بَلْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَسْبِقُ .
فَمِنْهَا : الرَّوْعَةُ الَّتِي لَهُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَأَسْمَاعِهِمْ ، سَوَاءٌ الْمُقِرُّ وَالْجَاحِدُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا فِي أَسْمَاعِ السَّامِعِينَ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْقَارِئِينَ .
وَمِنْهَا : جَمْعُهُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَزَالَةِ وَالْعُذُوبَةِ ، وَهُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ غَالِبًا فِي كَلَامِ الْبَشَرِ .
وَمِنْهَا : جَعْلُهُ آخِرُ الْكُتُبِ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ ، وَجَعْلُ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=76إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [ النَّمْلِ : 76 ] .
وَقَالَ
الرُّمَّانِيُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=20759_25029وُجُوهُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَظْهَرُ مِنْ جِهَاتِ تَرْكِ الْمُعَارَضَةِ ، مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ ، وَالتَّحَدِّي لِلْكَافَّةِ ، وَالصِّرْفَةِ ، وَالْبَلَاغَةِ ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَنَقْضِ الْعَادَةِ ، وَقِيَاسِهِ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ .
قَالَ : وَنَقْضُ الْعَادَةِ هُوَ أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ جَارِيَةً بِضُرُوبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْرُوفَةٍ : مِنْهَا الشِّعْرُ ، وَمِنْهَا السَّجْعُ ، وَمِنْهَا الْخُطَبُ ، وَمِنْهَا الرَّسَائِلُ ، وَمِنْهَا الْمَنْثُورُ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ ، فَأَتَى الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةٍ مُفْرَدَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْعَادَةِ لَهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْحُسْنِ تَفُوقُ بِهِ كُلَّ طَرِيقَةٍ ، وَيَفُوقُ الْمَوْزُونُ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الْكَلَامِ .
قَالَ : وَأَمَّا قِيَاسُهُ بِكُلِّ مُعْجِزَةٍ ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ إِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِذَا كَانَ سَبِيلُ فَلْقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فِي ذَلِكَ سَبِيلًا وَاحِدًا فِي الْإِعْجَازِ ، إِذْ خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ ، وَصَدَّ الْخَلْقَ فِيهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا : اعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20759_25029الْقُرْآنَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ وَتَحْصِيلُهَا مِنْ جِهَةِ ضَبْطِ أَنْوَاعِهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ .
[ ص: 250 ] أَوَّلُهَا : حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامُ كَلِمِهِ وَفَصَاحَتُهُ ، وَوُجُوهُ إِيجَازِهِ ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةُ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ فُرْسَانُ الْكَلَامِ ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ .
وَالثَّانِي : صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ ، وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَمِنْهَاجِ نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَقَاطِعُ آيَاتِهِ ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ .
قَالَ : وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ بِذَاتِهَا ، وَالْأُسْلُوبِ الْغَرِيبِ بِذَاتِهِ ، نَوْعُ إِعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ، لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا ، مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ .
الثَّالِثُ : مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَوُجِدَ كَمَا وَرَدَ .
الرَّابِعُ : مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ ، وَالشَّرَائِعِ الدَّائِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمْرَهُ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ ، فَيُورِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَأْتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ .
قَالَ : فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا .
وَمِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِهِ غَيْرُ ذَلِكَ أَيْ : وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ
لِلْيَهُودِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=94فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [ الْبَقَرَةِ : 94 ، 95 ] . فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ .
وَمِنْهَا : الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ ، وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ ، وَقَدْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ ، كَمَا وَقَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=67لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ قَالَ : فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=35أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=37الْمُصَيْطِرُونَ [ الطُّورِ : 35 - 37 ] . كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ ، قَالَ : وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي .
[ ص: 251 ] وَقَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتٍ مِنْهُ أُفْرِدُوا بِالتَّصْنِيفِ .
ثُمَّ قَالَ : وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لَا يُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا مَعَ مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ ، وَسَامِعُهُ لَا يَمُجُّهُ ، بَلْ الْإِكْبَابُ عَلَى تِلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلَاوَةً ، وَتَرْدِيدُهُ يُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةً ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ يُعَادَى إِذَا أُعِيدَ ، وَيُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ ، وَلِهَذَا وَصَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979756لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ .
وَمِنْهَا : جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ يَجْمَعْهَا كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ وَلَا أَحَاطَ بِعِلْمِهَا أَحَدٌ فِي كَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَأَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ . قَالَ : وَهَذَا الْوَجْهُ دَاخِلٌ فِي بَلَاغَتِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُفْرَدًا فِي إِعْجَازِهِ .
قَالَ : وَالْأَوْجُهُ الَّتِي قَبْلَهَا تُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ وَفَضَائِلِهِ لَا إِعْجَازِهِ ، وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ فَلْيُعْتَمَدْ عَلَيْهَا انْتَهَى .