[ ص: 161 ] الثالث : قال أبو شامة - أيضا - : فإن قيل : ما وهلا أنزل كسائر الكتب جملة ؟ . السر في نزوله منجما ؟
قلنا : هذا سؤال قد تولى الله جوابه ، فقال - تعالى - : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل ، فأجابهم - تعالى - بقوله : كذلك أي : أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤادك [ الفرقان : 32 ] أي : لنقوي به قلبك ; فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب ، وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه ، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز ، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ; ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل .
وقيل : معنى لنثبت به فؤادك أي : لحفظه ، فإنه - عليه السلام - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ففرق عليه ليثبت عنده حفظه ، بخلاف غيره من الأنبياء ، فإنه كان كاتبا قارئا ، فيمكنه حفظ الجميع .
وقال : قيل : أنزلت التوراة جملة ; لأنها نزلت على نبي يكتب ويقرأ وهو ابن فورك موسى . وأنزل الله القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي .
وقال غيره : إنما لم ينزل جملة واحدة ; لأن منه الناسخ والمنسوخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا ، ومنه ما هو جواب لسؤال ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل ، وقد تقدم ذلك في قول : ونزله ابن عباس جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم ، وفسر به قوله : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق [ الفرقان : 33 ] أخرجه عنه . ابن أبي حاتم
فالحاصل أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقا .
تذنيب : ما تقدم في كلام هؤلاء من أن - هو مشهور في كلام [ ص: 162 ] العلماء وعلى ألسنتهم ، حتى كاد أن يكون إجماعا ، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك ، وقال : إنه لا دليل عليه ، بل الصواب : أنها نزلت مفرقة كالقرآن . سائر الكتب أنزلت جملة
وأقول : الصواب الأول ، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة .
أخرج ، من طريق ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، ، قال : ابن عباس قالت اليهود : يا أبا القاسم ، لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى ، فنزلت .
وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ : " قال المشركون " . وأخرج نحوه عن قتادة والسدي .
فإن قلت : ليس في القرآن التصريح بذلك ، وإنما هو على تقدير ثبوته ، قول الكفار ؟ .
قلت : سكوته - تعالى - عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته ، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول : إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة ، كما أجاب بمثل ذلك قولهم : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ الفرقان : 7 ] ، فقال وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ الفرقان : 20 ] وقولهم أبعث الله بشرا رسولا [ الإسراء : 94 ] ، فقال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [ يوسف : 109 ] وقولهم : كيف يكون رسولا ولا هم له إلا النساء ؟ فقال ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ الرعد : 38 ] . إلى غير ذلك .
ومن الأدلة على ذلك - أيضا - قوله تعالى : في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة [ الأعراف : 144 - 145 ] وألقى الألواح [ الأعراف : 150 ] ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة [ الأعراف : 154 ] وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [ الأعراف : 171 ] ، فهذه الآيات كلها دالة على إتيانه التوراة جملة .
وأخرج ، من طريق ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، ، قال : ابن عباس موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد ، فيها تبيان لكل شيء وموعظة ، فلما جاء بها فرأى أعطي بني إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتوراة من يده فتحطمت ، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي منها سبع .
وأخرج من طريق عن أبيه ، عن جده ، رفعه قال : جعفر بن محمد ، الألواح التي [ ص: 163 ] أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة ، كان طول اللوح اثني عشر ذراعا .
وأخرج وغيره ، عن النسائي في حديث الفتون - قال : أخذ ابن عباس موسى الألواح بعدما سكن عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقروا بها حتى ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأقروا بها . نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة
وأخرج عن ابن أبي حاتم ، ثابت بن الحجاج ، قال : جاءتهم التوراة جملة واحدة ، فكبر عليهم ، فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك .
فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة .
ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرقا ، فإنه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج ، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة ، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس ، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي .
ويوضح ذلك ما أخرجه عن البخاري ، عائشة ، قالت : إنما نزل ، ولو نزل أول شيء : ( لا تشربوا الخمر ) لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ولو نزل ( لا تزنوا ) لقالوا : لا ندع الزنا أبدا . أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام
ثم رأيت هذه الحكمة مصرحا بها في " الناسخ والمنسوخ " لمكي .