ومن أحسنها قوله تعالى : أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ( النور : 40 ) وهي ظلمة البحر ، وظلمة الموج فوقه ، وظلمة السحاب فوق الموج .
وقوله تعالى : وبلغت القلوب الحناجر ( الأحزاب : 10 ) أي : كادت تبلغ ; لأن القلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه .
وقيل : هو حقيقة ، وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنتفخ رئته ، ولا يبعد أن ينهض بالقلب نحو الحنجرة ، ذكره الفراء وغيره .
أو أنها لما اتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر .
ورد تقدير " كادت " فإن " كاد " لا تضمر . ابن الأنباري
وقوله تعالى : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( إبراهيم : 46 ) .
وقوله تعالى : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ( مريم : 90 - 91 ) .
ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه ; كقوله تعالى : إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ( المرسلات : 32 - 33 ) .
وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة ، وهو مجاز ; كقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا ( الفجر : 22 ) فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه على المبالغة .
[ ص: 132 ] وكقوله سبحانه : ووجد الله عنده فوفاه حسابه ( النور : 39 ) فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازي .
ومنه ما جرى مجرى الحقيقة ، كقوله تعالى : يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( النور : 43 ) فإن اقتران هذه بـ " يكاد " صرفها إلى الحقيقة ; فانقلب من الامتناع إلى الإمكان .
وقد تجيء المبالغة مدمجة ، كقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ( الرعد : 10 ) فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة في المقابلة ، وهي بالنسبة إلى المخاطب لا إلى المخاطب ; معناه أن علم ذلك متعذر عندكم ; وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة .
وأما قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ( الكهف : 109 ) الآية فقيل : سببها اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : كيف عنفنا بهذا القول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( الإسراء : 85 ) ونحن قد أوتينا التوراة ، وفيها كلام الله وأحكامه ، ونور وهدى ؟ ! فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : التوراة قليل من كثير ونزلت هذه الآية . أن
وقيل : إنما نزلت ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ( لقمان : 27 ) .
قال المفسرون : والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته ; وهي في نفسها غير [ ص: 133 ] متناهية ، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى ; لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة .
وقال بعض المحققين : إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفد ، ولم تقتض الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور ; وكما قال الخضر عليه السلام : " ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس منقاره فيها " .
وعد بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب ، والصفح عن الذنوب ، والتغافل عن الزلات ، والستر على أهل المروءات ، كقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ( الأعراف : 199 ) .
وقيل في تفسيره : أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .
وقوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن ( فصلت : 34 ) الآية .
تنبيه تحصل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز : إما بالحذف ، وإما بجعل الشيء نفس الشيء ، أو يتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم ، ويقوم مقام أوصاف ; كقوله تعالى : الحاقة ما الحاقة ( الحاقة : 1 - 2 ) .
وقد نص على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام . سيبويه
فائدة : اختلف في المبالغة على أقوال : أحدها : إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة .
[ ص: 134 ] والثاني : أنها الغاية في الحسن ، وأعذب الكلام ما بولغ فيه ، وقد قال النابغة :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
والثالث : وهو الأصح ; أنها من محاسن الكلام ; ولا ينحصر الحسن فيها ; فإن فضيلة الصدق لا تنكر ، ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى ، ولها طريقان : أحدهما : أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة ، كما في الكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها ، من أنواع المجاز .والثاني : أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يقتضي زيادة ; فتترادف الصفات بقصد التهويل ، كما في قوله تعالى : في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ( النور : 40 )