وقيل : هو إرادة وصف شيئين : الأول منهما قصدا ، والثاني بطريق الانجرار ، وله تعليق بالأول بضرب من التأكيد .
[ ص: 135 ] وعند النحاة : جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد .
وقال الشيخ عز الدين في أماليه : " الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة ، وتارة تكون مشددة " ; لأنها إما ألا تدل على معنى زائد على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط ; فهي مؤكدة ، وإما أن تدل عليه وعلى معنى زائد ; فهي مشددة " انتهى .
وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبية ، كقوله تعالى : ومن يغفر الذنوب إلا الله ( آل عمران : 135 ) فإنه معترض بين فاستغفروا لذنوبهم ( آل عمران : 135 ) وبين : ولم يصروا على ما فعلوا ( آل عمران : 135 ) .
وله أسباب منها تقرير الكلام ، كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل ، ورأى من الرأي كذا ، وكان صوابا .
ومنه قوله تعالى : تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ( يوسف : 73 ) لقد علمتم اعتراض ; والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة .
وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ( محمد : 2 ) ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ( النمل : 34 ) واعترض بقوله : وكذلك يفعلون ( النمل : 34 ) بين كلامها .
وقوله : وأتوا به متشابها ( البقرة : 25 ) .
[ ص: 136 ] ومنها قصد التنزيه ، كقوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( النحل : 57 ) فاعتراض ( سبحانه ) لغرض التنزيه والتعظيم ، وفيه الشناعة على من جعل البنات لله .
ومنها قصد التبرك ، وكقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( الفتح : 27 ) .
ومنها قصد التأكيد ; كقوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 75 - 76 ) .
وفيها اعتراضان ; فإنه اعترض بقوله : ( وإنه لقسم ) ( الواقعة : 76 ) بين القسم وجوابه ، واعترض بقوله : ( لو تعلمون ) ( الواقعة : 76 ) بين الصفة والموصوف ، والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم ، وتأكيد إجلاله في النفوس ، لا سيما بقوله : ( لو تعلمون ) ( الواقعة : 76 ) .
وقوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن ( الكهف : 30 - 31 ) فـ أولئك الخبر ، و إنا لا نضيع اعتراض .
ومنها كون الثاني بيانا للأول ; كقوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( البقرة : 222 ) فإنه اعتراض وقع بين قوله : ( فأتوهن ) ( البقرة : 222 ) وبين قوله : نساؤكم حرث لكم ( البقرة : 223 ) وهما متصلان معنى ; لأن الثاني بيان للأول ، كأنه قيل : فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث ، وفيه اعتراض بأكثر من جملة .
ومنها تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما ، كقوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك ( لقمان : 14 ) فاعترض بقوله : حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ( لقمان : 14 ) بين ووصينا وبين الموصى به ، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله ; فذكر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم ; لتحملها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد ، ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا وبالأب مرة .
[ ص: 137 ] ومنها زيادة الرد على الخصم ; كقوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 71 ) الآية فقوله : والله مخرج ( البقرة : 72 ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .
وفائدته أن يقرر في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك الأنفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه ; لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 72 ) فقلنا اضربوه ببعضها ( البقرة : 73 ) .
وقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ( النحل : 101 ) ، فاعترض بين إذ وجوابها بقوله : والله أعلم بما ينزل ( النحل : 101 ) فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم ; فجعل الجواب اعتراضا .
قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ( الزمر : 45 ) إلى قوله : بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ( الزمر : 49 ) .
وقوله : قل اللهم فاطر السماوات والأرض ( الزمر : 46 ) إلى قوله : وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( الزمر : 48 ) اعتراض في أثناء الكلام ، وهو قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ( الزمر : 45 ) الآية وذلك لأن قوله : فإذا مس الإنسان ضر ( الزمر : 49 ) سبب عن قوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ( الزمر : 45 ) على معنى أنهم يشمئزون من توحيد الله تعالى ، ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة ; فإذا مس أحدهم ضر أو أصابته شدة تناقض في دعواه ; فدعا من اشمأز من ذكره ، وانقبض من توحيده ، ولجأ إليه دون الآلهة ، فهو اعتراض بين السبب والمسبب ، فقيد القول بما فيه من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره بذلك ، وبقوله : أنت تحكم بين عبادك ( الزمر : 8 ) ثم عقبه من الوعيد العظيم أشد التأكيد وأعظمه وأبلغه ; ولذلك كان اتصال قوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه ( الزمر : 8 ) للسبب الواقع فيها ، وخلو الأول منه من الأمر اشتراك جملة مع جملة ، ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق الجمع ، كقولهم : قام زيد وعمرو .
وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الآية من [ ص: 138 ] اشمئزازهم ليس يقتضي التجاءهم إلى الله تعالى ، وإنما يقتضي إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضي إثبات التناقض ، وذلك أنك تقول : زيد يؤمن بالله تعالى ; فإذا مسه الضر لجأ إليه .
فهذا سبب ظاهر مبني على اطراد الأمر ، وتقول : زيد كافر بالله ; فإذا مسه ضر لجأ إليه .
فتجيء بالفاء هنا كالأول ; لغرض التزام التناقض أو العكس ; حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء ، فأنت تلزمه العكس بأنك إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله .
وقوله : وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( الزمر : 61 ) بقوله : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض ( الزمر : 62 - 63 ) اعتراض واقع في أثناء كلام متصل ، وهو قوله : وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( الزمر : 61 ) والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ( الزمر : 63 ) وهو على مهيع أسلوب القرآن ; من ذكر الضد عقب الضد كثير كما قيل :
وبضدها تتبين الأشياء
ومنها الإدلاء بالحجة ; كقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر ( النحل : 43 - 44 ) فاعترض بقوله : ( فاسألوا ) بين قوله : نوحي إليهم ( النحل : 43 ) وبين قوله : بالبينات والزبر ( النحل : 44 ) .وبهذه الآية رد ابن مالك على أبي علي الفارسي قوله : " إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة " .
[ ص: 139 ] ورد بأن جملة الأمر دليل [ على ] للجواب عند الأكثرين ، ونفسه عند آخرين ; فهو مع جملة الشرط كالجملة الواحدة . نعم جوزوا في قوله تعالى : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ( الرحمن : 54 ) أن يكون حالا من قوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان ( الرحمن 46 ) فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلات ; إن كان ذواتا أفنان ( الرحمن : 48 ) خبر مبتدأ محذوف ; وإلا فيكون بست جمل .
وقال في قوله تعالى : الزمخشري ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى . . . . . ( الأعراف : 96 - 97 ) الآية : " إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة : جملة الشرط ( واتقوا ) و ( فتحنا ) و ( كذبوا ) و ( أخذناهم ) و بما كانوا يكسبون وزعم أن ( أفأمن ) ( الأعراف : 97 ) معطوف على فأخذناهم بغتة ( الأعراف : 95 ) وكذا نقله ابن مالك عن وتبعه الزمخشري ، أبو حيان ، ولم يوجد ذلك في كلام . الزمخشري
قال ابن مالك : ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان ، قال : وإنما اعترض بأربع جمل ، وزعم أن من عند ( ولو أن ) إلى ( والأرض ) ( الأعراف : 96 ) جملة ; لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه .
انتهى .
وفي القولين نظر ; أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل : أحدها : وهم لا يشعرون ( الأعراف : 96 ) وأربعة في حيز " لو " وهي : ( آمنوا ) و ( اتقوا ) و ( فتحنا ) ، والمركبة مع أن وصلتها مع " ثبت " مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو اسمية ، والسادسة : ولكن كذبوا ( الأعراف : 96 ) والسابعة : ( فأخذناهم ) والثامنة : بما كانوا يكسبون ( الأعراف : 96 ) .
وأما قول المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل : أحدها : وهم لا يشعرون ( الأعراف : 95 ) ; [ ص: 140 ] لأنها حال مرتبطة بعاملها ، وليست مستقلة برأسها ، والثانية : " لو " وما في حيزها ، جملة واحدة فعلية إن قدر : " ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتقوا " أو اسمية وفعلية إن قدر " إيمانهم " " واتقوا " ثابتان ، والثالثة : ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ( الأعراف : 96 ) كله جملة .
وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدوا الكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض ، وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ( الأعراف : 96 ) جملة واحدة ; لأن جملة " واتقوا " معطوفة على خبر " أن " و " لفتحنا " جملة ثانية وما بعدها جملة واحدة ; لارتباط الشرط بالجزاء لفظا ولكن كذبوا ( الأعراف : 96 ) ثانية أو ثالثة ( فأخذناهم ) ثالثة أو رابعة و بما كانوا يكسبون متعلق بـ " أخذناهم " فلا يعد اعتراضا .
وقوله : وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي ( هود : 44 ) فهذه ثلاث جمل معترضة بين وقيل ياأرض ابلعي ماءك ( هود : 44 ) وبين وقيل بعدا ( هود : 44 ) .
وفيه اعتراض في اعتراض ، فإن وقضي الأمر ( هود : 44 ) معترض بين وغيض الماء ( هود : 44 ) وبين ( واستوت ) ( هود : 44 ) .
ولا مانع من كقوله : وقوع الاعتراض في الاعتراض وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 76 ) .
ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله : اعبدوا الله واتقوه ( الآية : 16 ) ثم اعترض تسلية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( العنكبوت : 18 ) وذكر آيات ، إلى أن قال : فما كان جواب قومه ( العنكبوت : 24 ) يعني قوم إبراهيم فرجع إلى الأول .
وجعل قوله تعالى : ( الزمخشري فاستفتهم ) ( الصافات : 149 ) وفي آخر الصافات [ ص: 141 ] معطوفا على ( فاستفتهم ) ( الآية : 11 ) في أول السورة ، وقال في قول بعضهم في : نذيرا للبشر ( المدثر : 36 ) إنه حال من فاعل ( قم ) ( المدثر : 2 ) في أول هذه السورة ، هذا من بدع التفاسير ، وهذا الذي ذكره في الصافات منه .
ومن العجب دعوى بعضهم كسر همزة " إن " في قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( ص : 64 ) على جواب القسم في قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر ( ص : 1 ) حكاه الرماني .
فإن قيل : أين خبر إن في قوله تعالى : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ( فصلت : 41 ) الآية ، قيل : الخبر : أولئك ينادون من مكان بعيد ( فصلت : 44 ) .
فوائد قال ابن عمرون : لا يجوز وقوع الاعتراض بين واو العطف وما دخلت عليه ، وقد أجازه قوم في " ثم " ، و " أو " ; فتقول : زيد قائم ثم والله عمرو " .
وقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا ( النساء : 135 ) جواب الشرط فقوله : فالله أولى بهما ( النساء : 135 ) اعتراض بين الشرط وجوابه ، مع أن فيه فاء ، والجملة مسندة لـ " يكن " .
قال الطيبي : سئل عن قوله تعالى : الزمخشري فمن شاء ذكره ( المدثر : 55 ) : أهو [ ص: 142 ] اعتراض ؟ قال : لا ; لأن من أن يكون بالواو ونحوها ، وأما بالفاء فلا . شرط الاعتراض
وفهم صاحب " فرائد القلائد " من هذا اشتراط الواو فقال : وقد ذكر الزمخشري إنه كان صديقا نبيا ( مريم : 41 و 56 ) هذه الجملة اعتراض بين البدل وبين المبدل منه ، أعني " إبراهيم " و إذ قال هذا معترض ; لأنه اعتراض بدون الواو بعيد عن الطبع وعن الاستعمال ، وليس كما قال ، فقد يأتي بالواو كما سبق في الأمثلة ، وبدونها كقوله سبحانه ولهم ما يشتهون ( النحل : 57 ) وقد اجتمعا في قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم ( الواقعة : 75 - 76 - 77 ) .