ثم بين المشتهيات التي يحبها الناس وحبها مزين لهم وله مكانة من نفوسهم بقوله : من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث فهذه ستة أنواع : ( أولها ) النساء وحبهن لا يعلوه حب لشيء آخر من متاع الدنيا فهن مطمح النظر وموضع الرغبة وسكن النفس ومنتهى الأنس ، وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال في كدهم وكدحهم ، فكم افتقر في حبهن غني ! وكم استغنى بالسعي للحظوة عندهم فقير ! وكم ذل بعشقهن عزيز ! وكم ارتفع في طلب قربهن وضيع ! ! ولعل في القارئين من يحب أن يعرف كيف يغنى الفقير ويرتفع الوضيع بسبب - إذا كان لا يوجد فيهم من يحتاج إلى معرفة كيف يذل العاشق ويفتقر - فنقول : إن من يحب ذات شرف ورفعة ويرى أنه لا سبيل إلى الاقتران بها إلا بتحصيل المال وتسنم غارب المعالي يوجه جميع قواه إلى ذلك ، ولا يزال به حتى يناله ، ولم يذكر حب النساء للرجال على أن حبهن لهم من نوع حبهم لهن ، ولكن الحب لا يبرح بالنساء تبريحه بالرجال ; فالمرأة أقدر على ضبط حبها وكتمانه وضبط نفسها وحفظ مالها وإنك لتسمع بأخبار المئين والألوف من الرجال الذين افتقروا أو احتقروا أو جنوا في حب النساء ، ولا تجد في مقابلتهم عشر نسوة قد منين بمثل ذلك في حب الرجال . ثم إن الرجال هم القوامون على النساء لقوتهم وقدرتهم على الحماية والكسب ، فإسرافهم في الحب واستهتارهم في العشق له الأثر العظيم في شئون الأمة وفي إضاعة الحق أو حفظه . فإن قيل : إن حب الولد أشد من حب المرأة فلماذا قدم ذكر النساء ؟ أقل : إن الأمر ليس كذلك ، فإن حب الولد - وإن كان لا يزول وحب المرأة قد يزول - لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحبها ، وكم من رجل جنى عشقه للمرأة على أولاده حتى إن كثيرا من الرجال الذين تزوجوا بأكثر من امرأة ، فعشقوا واحدة وملوا أخرى قد أهملوا تربية أولاد المملولة ، وحرموهم الرزق من حيث أفاضوا نصيبهم على أولاد المحبوبة ، وهذا من أسباب تحريم حب النساء ، فكيف بمن يوقن بذلك ويعزم عليه ؟ وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الفقراء الأذلاء لعشق والدهم لغير أمهم [ ص: 198 ] من نسائه وإن ماتت أمهم ولم يكن للمعشوقة ولد ، وما هو إلا محض التقرب وابتغاء الزلفى إلى المرأة . التزوج بأكثر من واحدة على من يخاف ألا يعدل
أما السبب في كون حب الرجل للمرأة أقوى من حبها له فهو أن السبب الطبيعي لهذا الحب هو داعية النسل لا قصده ، والداعية في الرجل أقوى وأشد ; ولذلك تراه يشغل بها إذا بلغ سنا أكثر من المرأة على كثرة شواغله الصارفة له عن ذلك ، وهو الذي يطلب المرأة ويبذل جهده وماله في سبيلها موطنا نفسه على أن يمونها ويصونها ويتحمل أثقالها طول الحياة وما عليها هي إلا القبول ، فإن طلبت أجملت في الطلب ، وإن شئت دليلا آخر على أن داعية النسل فيه أقوى ، فتأمل تجده مستعدا لها في كل حال طول عمره ، والمرأة تفقد هذا الاستعداد في زمن الحيض وبعد سن اليأس من الحيض الذي يكون غالبا من سن الخمسين إلى الخامسة والخمسين .
فإذا قبلت المرأة الرجل بعد هذا كان قبولها إياه من باب التودد والعتبى أو إثارة الذكرى ، ولا يدخل في السبب ما هو مسلم عند أكثر الرجال من كون النساء أوفر نصيبا من الحسن وقسما من القسامة والجمال ، فإن هذه القضية المسلمة غير صحيحة ، فإن الرجال أكمل وأجمل خلقا كما هي القاعدة في سائر الحيوان ، إذ نرى أن خلقة الذكر منها أجمل وأكمل من خلقة الأنثى ، كما نراه في الشيوخ والعجائز من الناس ، بل نرى الأبيض القوقاسي يفضل خلقة رجال الزنوج على نسائهم ; لأنه قلما يشتهي الزنجيات في حال الاعتدال ، فمعظم حسن المرأة وجمالها إنما جاء من زيادة حب الرجل إياها .
فمن تأمل هذه المعاني والفروق في حب كل من الزوجين للآخر يسهل عليه أن يقول : إن المراد بحب النساء حب الزوجية الذي يكون بين المرأة والرجل فذكر أقوى طرفيه لأن قصد التمتع فيه أظهر ، وأثره في الصرف عن الحق أو الاشتغال عن الآخرة أقوى ، وطوى الطرف الثاني ، وفعل مثل ذلك في النوع الثاني من الحب المزين للناس وهو حب الولد ، فكأن في الآية احتباكا ، وليس عندي في هذه المسألة بل ولا في الآية شيء عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - إلا ما سيأتي في حب الولد .