فإن قيل : ما حكم ؟ . الصلاة في مبارك البقر
فالجواب أن أكثر العلماء يقولون : إنها كمرابض الغنم . ولو قيل : إنها كمرابض الإبل ; لكان لذلك وجه .
قال ابن حجر ( في فتح الباري ) : وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر : ، اهـ . قال : وسنده ضعيف . فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل . بخلاف ما ذكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم ، ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر ابن المنذر : أن البقر في ذلك كالغنم . اهـ كلام ابن حجر .
وما يقوله أبو داود - رحمه الله - : من أن العمل بالحديث الضعيف خير من العمل بالرأي له وجه وجيه . والعلم عند الله تعالى .
وأما ، فدليل النهي عنها هو ما تقدم من حديث الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، وفوق ظهر بيت الله الحرام زيد بن جبيرة ، عن ، عن داود بن حصين نافع ، عن ، عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قدمنا ما في إسناده من الكلام . ابن عمر
وأما ، فلما روي من النهي عن ذلك عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - . الصلاة إلى جدار مرحاض عليه نجاسة
قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) : وأما الصلاة إلى جدار مرحاض ; فلحديث في سبعة من الصحابة بلفظ : " ابن عباس نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش " ، أخرجه . قال ابن عدي العراقي ولم يصح إسناده .
وروى في المصنف ، عن ابن أبي شيبة ، قال : لا يصلى إلى الحش . عبد الله بن عمرو
وعن علي قال : لا يصلى تجاه حش .
[ ص: 306 ] وعن إبراهيم : كانوا يكرهون ثلاثة أشياء . . فذكر منها الحش .
وفي كراهة استقباله خلاف بين العلماء . اهـ كلام الشوكاني .
والمراد بالحش - بضم الحاء وفتحها - بيت الخلاء .
وأما - والمراد بهما متعبدات الصلاة في الكنيسة والبيعة اليهود والنصارى - ، فقد كرهها جماعة من أهل العلم .
قال النووي في ( شرح المذهب ) : حكاه ابن المنذر عن ، عمر بن الخطاب ، وابن عباس ومالك - رضي الله عنهم - .
قال الشوكاني : وقد رويت الكراهة أيضا عن الحسن .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما روي من ذلك عن عمر ليس على إطلاقه ، وإنما هو في الكنائس والبيع التي فيها الصور خاصة . ومما يدل على ذلك ما ذكره وابن عباس - رحمه الله - في صحيحه ، قال : ( باب الصلاة في البيعة ) ، وقال البخاري عمر - رضي الله عنه - : " إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور " . وكان يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل . ابن عباس
وقال ابن حجر في ( الفتح ) : إن الأثر الذي علقه عن البخاري عمر ، وصله عبد الرزاق من طريق - . والأثر الذي علق عن أسلم - مولى عمر ، وصله ابن عباس البغوي في الجعديات . اهـ .
ومعلوم أن لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما هو ثابت عنده . البخاري
ورخص في الصلاة في الكنيسة والبيعة جماعة من أهل العلم ، منهم : أبو موسى ، ، وعمر بن عبد العزيز ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن سيرين والنخعي ، ، وغيرهم . والأوزاعي
قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - : ولعل وجه الكراهة هو ما تقدم من اتخاذ قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد ; لأنه يصير جميع البيع والكنائس مظنة لذلك .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ويحتمل أن تكون العلة أن الكنيسة والبيعة : موضع يعصى الله فيه ويكفر به فيه ، فهي بقعة سخط وغضب . وأما النهي عن الصلاة إلى التماثيل : فدليله ثابت في الصحيح .
[ ص: 307 ] فمن ذلك ما أخرجه في صحيحه ( في كتاب الصلاة ) ، قال : ( باب إن البخاري ؟ وما ينهى عن ذلك ، حدثنا صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل يفسد صلاته ، قال : حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو عبد الوارث ، قال : حدثنا ، عن عبد العزيز بن صهيب أنس : لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عنا قرامك هذا ; إنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي " . كان قرام
وقال أيضا ( في كتاب اللباس ، باب كراهية اللباس في التصاوير ) : حدثنا البخاري عمران بن ميسرة ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا ، عن عبد العزيز بن صهيب أنس - رضي الله عنه - ، قال : لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عني ; فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " . كان قرام
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : القاسم يحدث عن عائشة : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليه ، فقال : " أخريه عني " ، قالت : فأخرته فجعلته وسائد . سمعت
والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور ، والقرام - بالكسر - : ستر فيه رقم ونقوش ، أو الستر الرقيق ، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج :
من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها
وقول الآخر يصف دارا :
على ظهر جرعاء العجوز كأنها دوائر رقم في سراة قرام
والكلة في بيت لبيد : هي القرام إذا خيط فصار كالبيت .
فهذه النصوص الصحيحة تدل على أنه لا تجوز . ومما يدل لذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث الصلاة إلى التماثيل عائشة - رضي الله عنها - : أم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها وأم سلمة بالحبشة ، فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " . اهـ . هذا لفظ أن مسلم ، ولفظ قريب منه . اهـ . البخاري
أما بطلان صلاة من صلى إلى التماثيل ، ففيه اختلاف بين العلماء ، وقد أشار له [ ص: 308 ] بقوله الذي قدمنا عنه ( باب إن صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل تفسد صلاته ؟ ) الخ . البخاري
وقد قدمنا أن منشأ الخلاف في البطلان هو الاختلاف في انفكاك جهة النهي عن جهة الأمر . والعلم عند الله تعالى .
وأما منع ، وتعذيب فاعليه يوم القيامة أشد العذاب ، وأمرهم بإحياء ما صوروا ، وكون الملائكة لا تدخل محلا فيه صورة أو كلب ، فكله معروف ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . تصوير الحيوان
وأما : فإنها لا تجوز بإجماع المسلمين ; لأن اللبث فيها حرام في غير الصلاة ، فلأن يحرم في الصلاة أولى . الصلاة في المكان المغصوب
وذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه لو صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة ; لانفكاك الجهة أنه آثم بغصبه ، مطيع بصلاته : كالمصلي بحرير .
وذهب في أصح الروايات عنه ، الإمام أحمد والجبائي وغيره من المعتزلة : إلى أنها باطلة ; لعدم انفكاك جهة الأمر عن جهة النهي كما قدمنا ، وقد قدمنا أقوال عامة العلماء في هذه المسألة في أبيات مراقي السعود التي استشهدنا بها . وأما النهي عن : فدليله ما أخرجه الصلاة إلى النائم والمتحدث أبو داود في سننه ، قال : ( باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام ) ، حدثنا ، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عبد الملك بن محمد بن أيمن ، عن ، عمن حدثه عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق ، قال : قلت له - يعني محمد بن كعب القرظي - : حدثني لعمر بن عبد العزيز : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عبد الله بن عباس " . اهـ . لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث
وهذا الحديث لا يخفى ضعفه ; لأن الراوي في هذا الإسناد عن لا يدرى من هو كما ترى . محمد بن كعب
وقال في سننه : حدثنا ابن ماجه ، ثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني زيد بن الحباب أبو المقدام ، عن ، عن محمد بن كعب ، قال : " ابن عباس " . وإسناد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى خلف المتحدث ، أو النائم هذا لا يحتج به أيضا ; لأن الراوي فيه عن ابن ماجه محمد بن كعب : أبو المقدام وهو هشام بن زياد بن أبي يزيد ، وهو هشام بن أبي هشام ، ويقال له أيضا : هشام بن أبي الوليد المدني ، وهو لا يحتج بحديثه . قال فيه ابن حجر في التقريب : [ ص: 309 ] متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال عبد الله بن أحمد ، : ضعيف الحديث . وقال وأبو زرعة عن الدوري : ليس بثقة . وقال في موضع آخر : ضعيف ، ليس بشيء . وقال ابن معين : يتكلمون فيه . وقال البخاري أبو داود : غير ثقة . وقال الترمذي : يضعف . وقال النسائي وعلي بن الجنيد الأزدي : متروك الحديث . وقال أيضا : ضعيف . وقال النسائي : ليس بثقة ، ومرة : ليس بشيء . وقال النسائي أبو حاتم : ضعيف الحديث ليس بالقوي ، وكان جارا لأبي الوليد ، فلم يرو عنه ، وكان لا يرضاه . ويقال : إنه أخذ كتاب حفص المنقري ، عن الحسن فروى عن الحسن . وعنده عن الحسن أحاديث منكرة .
قلت : وقال : يروي الموضوعات عن الثقات : لا يجوز الاحتجاج به . وقال ابن حبان : ضعيف ، وترك الدارقطني حديثه . وقال ابن المبارك ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث . وقال : لا يحتج بحديثه . وقال أبو بكر بن خزيمة العجلي : ضعيف . وقال : ضعيف لا يفرح بحديثه . اهـ كلام يعقوب بن سفيان ابن حجر . وبه تعلم أن الصلاة إلى النائم والمتحدث لم يثبت النهي عنها من طريق صحيح .
وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الصلاة إلى النائم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعلها . قال في صحيحه ( باب الصلاة خلف النائم ) : حدثنا البخاري مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثني أبي ، عن عائشة قالت : . كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت
وقال ابن حجر في الفتح : أورد فيه حديث عائشة أيضا من وجه آخر بلفظ آخر ; للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى . وكأنه أشار أيضا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم ، فقد أخرجه أبو داود من حديث وابن ماجه . اهـ . وقال ابن عباس أبو داود : طرقه كلها واهية - يعني حديث - اهـ . ابن عباس
وفي الباب عن أخرجه ابن عمر . وعن ابن عدي أخرجه أبي هريرة في الأوسط ، وهما واهيان أيضا . وكره الطبراني مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم ; خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ، وظاهر تصرف المصنف : أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك ، انتهى كلام ابن حجر في ( فتح الباري ) .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لم يثبت نص خاص في [ ص: 310 ] النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث ، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر ، بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ; لأن النائم لا يدري عن نفسه . كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم
وكتعليل كراهة ; بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته ، - والله تعالى أعلم - . الصلاة إلى المتحدث
وأما كراهة ; فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث الصلاة في بطن الوادي زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهي عن الصلاة فيها " وبطن الوادي " بدل " المقبرة " ، قال الشوكاني قال الحافظ : وهي زيادة باطلة لا تعرف .
وقال بعض العلماء : كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس .
وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان .
ويجاب عن هذا : بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي . - والله تعالى أعلم - .
وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار ; فدليله قوله تعالى : لا تقم فيه أبدا [ 9 \ 108 ] ، وقوله - جل وعلا - : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل الآية [ 9 \ 107 ] . وقوله : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم الآية [ 9 \ 109 - 110 ] . فهذه الآيات تدل على التباعد عن موضع ذلك المسجد ، وعدم القيام فيه كما هو ظاهر .
وأما كراهة ; فلما رواه الصلاة إلى التنور في المصنف ، عن ابن أبي شيبة : أنه كره الصلاة إلى التنور ، وقال : هو بيت نار . محمد بن سيرين
وظاهر صنيع : أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروهة ، وأن عرض النار على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته يدل على عدم الكراهة . قال البخاري في صحيحه ( باب من صلى وقدامه تنور أو نار ، أو شيء مما يعبد فأراد به الله ) ، وقال البخاري : أخبرني الزهري أنس ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " ، حدثنا عرضت علي النار وأنا أصلي ، عن عبد الله بن مسلمة مالك ، عن ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : " عبد الله بن عباس " . اهـ . انخسفت الشمس فصلى [ ص: 311 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع
وعرض النار عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته ، دليل على عدم الكراهة ; لأنه لم يقطع .
وقد دل بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة وجهه ، لا من جهة اليمين ولا الشمال ، ففي بعض الروايات الصحيحة : أنهم قالوا له بعد أن انصرف : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت - أي : تأخرت - إلى خلف ؟ وفي جوابه : أن ذلك بسبب كونه " أري النار . . " إلخ .
فهذا هو حاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها ، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها . والعلم عند الله تعالى .