ومن الأدلة القرآنية الدالة على الحجاب قوله تعالى : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم [ 24 \ 60 ] [ ص: 248 ] لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا ، أي : لا يطمعن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن ، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة ، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال : وأن يستعففن خير لهن ، أي : يستعففن عن وضع الثياب خير لهن ، أي : واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج ، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن .
وأظهر الأقوال في قوله : أن يضعن ثيابهن ، أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب ، التي تكون فوق الخمار والثياب .
فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : وأن يستعففن خير لهن ، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح ، لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب .
وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام ، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على ، علمت أن القرآن دل على الحجاب ، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة ، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب محمد - صلى الله عليه وسلم - مريض القلب كما ترى .
واعلم أنه مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب ، قد دلت على ذلك أيضا أحاديث نبوية ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عقبة بن عامر الجهني . أخرج " إياكم والدخول على النساء " ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرأيت الحمو ؟ قال : " الحمو الموت " هذا الحديث في كتاب " النكاح " ، في باب : لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ . البخاري ومسلم في كتاب " السلام " ، في باب تحريم ، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعا إلا من وراء [ ص: 249 ] حجاب ; لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذره من الدخول عليها ، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرما لزوجته ، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك قال له - صلى الله عليه وسلم - : " الخلوة بالأجنبية والدخول عليها " ، فسمى - صلى الله عليه وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت ، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير ; لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا ، كما قال الشاعر : الحمو الموت
والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله
والجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] ، فتحذيره - صلى الله عليه وسلم - هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء ، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب عام في جميع النساء ، كما ترى . إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء ، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك ، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده ، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فدل على أن كليهما حرام .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح الحديث المذكور : " " ، بالنصب على التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه ; كما قيل : إياك والأسد ، وقوله : " إياكم " ، مفعول لفعل مضمر تقديره : اتقوا . إياكم والدخول
وتقدير الكلام : اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء ، والنساء أن يدخلن عليكم . ووقع في رواية ابن وهب ، بلفظ : " " ، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى ، انتهى محل الغرض منه . وقال لا تدخلوا على النساء رحمه الله في " صحيحه " ، باب البخاري وليضربن بخمرهن على جيوبهن . وقال : حدثنا أبي عن أحمد بن شبيب يونس ، قال ، عن ابن شهاب عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن [ 24 \ 31 ] ، شققن مروطهن فاختمرن بها .
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ، عن إبراهيم بن نافع الحسن بن مسلم عن : [ ص: 250 ] أن صفية بنت شيبة عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول : لما نزلت هذه الآية وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها ، انتهى من صحيح . وقال البخاري ابن حجر في " الفتح " ، في شرح هذا الحديث : قوله : فاختمرن ، أي غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع . قال الفراء : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار . انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، يقتضي ستر وجوههن ، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن ، أي : سترن وجوههن بها امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : معنى قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن المقتضي ستر وجوههن ، وبهذا يتحقق المنصف أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى ، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه ، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن ، والله جل وعلا يقول : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] ، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : من طريق ولابن أبي حاتم عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن صفية ما يوضح ذلك ، ولفظه : ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن ، فقالت : إن لنساء قريش لفضلا ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، ولقد أنزلت سورة " النور " : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .
ومعنى معتجرات : مختمرات ، كما جاء موضحا في رواية المذكورة آنفا ، فترى البخاري عائشة - رضي الله عنها - مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم ، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله ، كما ترى . [ ص: 251 ] فالعجب كل العجب ، ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب ، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله ، ومعنى هذا ثابت في الصحيح ، كما تقدم عن . وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين ، كما ترى . البخاري
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقال البزار أيضا : حدثنا ، حدثني محمد بن المثنى حدثنا عمرو بن عاصم ، همام ، عن قتادة ، عن ، عن مورق أبي الأحوص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " ، ورواه إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها الترمذي عن بندار ، عن به نحوه ، اه منه . عمرو بن عاصم
وقد ذكر هذا الحديث صاحب " مجمع الزوائد " ، وقال : رواه في " الكبير " ، ورجاله موثقون ، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة ، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة . الطبراني
ومما يؤيد ذلك : ما ذكر الهيثمي أيضا في " مجمع الزوائد " ، عن قال : ابن مسعود ، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه ، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال : أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضا أو أشهد جنازة ، أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها ، مثل أن تعبده في بيتها ، ثم قال : رواه إنما النساء عورة في " الكبير " ، ورجاله ثقات ، اه منه . ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه . الطبراني
ومن الأدلة الدالة على ذلك الأحاديث التي قدمناها ، الدالة على أن ، كما أوضحناه في سورة " النور " في الكلام على قوله تعالى : صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية [ 24 \ 36 - 37 ] ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا ، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق .
فقد ذكرنا الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب ، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية " النور " ، مع تفسير الصحابة لها ، وهي قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي ، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن [ ص: 252 ] الرجال ، وأن عمل بالقرآن ، كما قالته ستر المرأة وجهها عائشة رضي الله عنها .
وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف ، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم ، عما استدل به الذين قالوا بجواز . إبداء المرأة وجهها ويديها ، بحضرة الأجانب
فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها : أن دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : " أسماء بنت أبي بكر أسماء ، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه ; وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين : يا
الأولى : هي كونه مرسلا ; لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة ، كما قاله أبو داود ، كما قدمناه في سورة " النور " . وأبو حاتم الرازي
الجهة الثانية : أن في إسناده مولاهم ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب ، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب . سعيد بن بشير الأزدي
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث جابر الثابت في الصحيح ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ، ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، فقال : " بلال من أقراطهن وخواتمهن ، اه . هذا لفظ تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين ، فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير " ، قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب مسلم في " صحيحه " ، قالوا : وقول جابر في هذا الحديث : سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها ، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها ، ولما علم بأنها سفعاء الخدين . وأجيب عن حديث جابر هذا : بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها ، وأقرها على ذلك ، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها ، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا ، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد ، فيراه بعض الناس في تلك الحال ، كما قال نابغة ذبيان :
[ ص: 253 ]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير جابر ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر مسلم في " صحيحه " ممن رواها غير جابر ، أبا سعيد الخدري ، وابن عباس ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير وابن عمر جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور . وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم ، وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء ، هكذا هو في النسخ ( سطة ) بكسر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي : معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار ، قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه في مسنده ، ابن أبي شيبة في سننه . في رواية والنسائي : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام لابن أبي شيبة القاضي ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : توسطتهم ، اه منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ; لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال النووي : سفعاء الخدين ، أي : فيها تغير وسواد . وقال الجوهري في " صحاحه " : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال حميد بن ثور :
من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد ، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا :
تقول ابنة العمري ما لك بعدما أراك خضيبا ناعم البال أروعا
[ ص: 254 ]
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة وجد تترك الخد أسفعا
ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك
والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا .
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث الذي قدمناه ، قال : ابن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل بن عباس الفضل رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا . . . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها . أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين :
الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها ، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها ، ومما يوضح هذا أن رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه ، لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من عبد الله بن عباس مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ، [ ص: 255 ] واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها .
فإن قيل : قوله : إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء قوله : فطفق الفضل ينظر إليها ، وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه .
فالجواب : أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما ، لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها ؛ لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة ، وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط ، كما هو معلوم . ولذلك فسر : ابن مسعود ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 24 \ 31 ] ، بالملاءة فوق الثياب ، كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر :
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا .
الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير رضي الله عنهما ، الفضل بن عباس والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور .
فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة ; لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال .
فالجواب : أن ، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة ، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء الفضل إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك [ ص: 256 ] الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم .
وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي ، ألم تسمع بعضهم يقول :
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ، ولقد صدق من قال :
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب