قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون . قوله : اطيرنا بك ، أي : تشاءمنا بك ، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب ، قالوا : ما جاءنا هذا إلا من شؤم صالح ، ومن آمن به . والتطير : التشاؤم ، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير .
وقد بينا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] وقوله تعالى : قال طائركم عند الله ، قال بعض أهل العلم : أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح ، ومن آمن به من قومه .
وقد قدمنا معنى طائر الإنسان في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [ 17 \ 13 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين ، جاء مثله موضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 7 \ 131 ] وقوله تعالى في تطير كفار قريش بنبينا - صلى الله عليه وسلم - : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] والحسنة في الآيتين : النعمة كالرزق والخصب والعافية ، والسيئة : المصيبة بالجدب والقحط ، ونقص الأموال ، والأنفس ، والثمرات ; وكقوله تعالى : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم [ 36 \ 18 - 19 ] أي : بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل أنتم قوم تفتنون ، قال بعض العلماء : [ ص: 118 ] تختبرون . وقال بعضهم : تعذبون ; كقوله : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقد قدمنا أن أصل الفتنة في اللغة ، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص ؟ وأنها أطلقت في القرآن على أربعة معان : الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] أي : حرقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين ، وقد اختاره بعض المحققين . .
المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار ، وهذا هو أكثرها استعمالا ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى : لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة ، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : لا يبقى شرك ، وهذا التفسير الصحيح ، دل عليه الكتاب والسنة .
أما الكتاب ، فقد دل عليه قوله بعده في " البقرة " : ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وفي " الأنفال " : ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] فإنه يوضح أن معنى : لا تكون فتنة ، أي : لا يبقى شرك ; لأن الدين لا يكون كله لله ، ما دام في الأرض شرك ، كما ترى .
وأما السنة : ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، الحديث . فقد جعل - صلى الله عليه وسلم - الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس ، هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو واضح في أن معنى : لا تكون فتنة : لا يبقى شرك ، فالآية والحديث كلاهما دال على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفار هي ألا يبقى في الأرض شرك ، إلا أنه تعالى في الآية عبر عن هذا المعنى بقوله : حتى لا تكون فتنة ، وقد عبر - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله : " " ، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى ، كما ترى . حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
الرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجة ، في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ ص: 119 ] [ 6 \ 23 ] أي : لم تكن حجتهم ، كما قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .