وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء أيضا في غير هذا الموضع [ ص: 30 ] كقوله تعالى في سورة " الصافات " إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون إلى قوله : يهرعون [ 37 \ 60 - 70 ] وكقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] .
وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف ، وهو أن يقال : لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية :
وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
كما قدمناه موضحا في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير الآية [ 16 \ 30 ] .
والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل ، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه ، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة ، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال .
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين : الأول : أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن ، وفي اللغة مرادا بها مطلق الاتصاف ، لا تفضيل شيء على شيء . وقدمناه مرارا وأكثرنا من شواهده العربية في سورة " النور " وغيرها .
الثاني : أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة ، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل ، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل ، كقول رضي الله عنه : حسان بن ثابت
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك ، أم السعادة ؟ وقوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي الآية [ 12 \ 32 ] .
[ ص: 31 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى : أذلك خير الآية ، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
فشركما لخيركما الفداء
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وكقوله : السجن أحب إلي مما يدعونني إليه [ 12 \ 32 ] وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ . ا ه . الغرض من كلام أبي حيان .وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى ، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان .
وقوله تعالى في هذه الآية : أم جنة الخلد التي وعد المتقون العائد محذوف : أي وعدها المتقون ، والآية تدل على أن . الوعد الصادق بالجنة ، يحصل بسبب التقوى
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] وقوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون العائد أيضا محذوف كالذي قبله : أي ما يشاءونه ، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير ، كما قال في الخلاصة :
والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب
بفعل أو وصـــــــف كمن نرجـــو يهــب
وهذه الآية الكريمة ، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم .
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة ، وقوله : كانت لهم جزاء ومصيرا المصير مكان الصيرورة ، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم .
[ ص: 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : كان على ربك وعدا مسئولا فيه وجهان معروفان .
أحدهما : أن معنى كونه مسئولا أن المؤمنين كانوا يسألونه ، وكانت الملائكة أيضا تسأله لهم ، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى بقوله عنهم : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد [ 3 \ 194 ] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضا في قوله : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم الآية [ 40 \ 47 ] وقال بعض العلماء : مسئولا : أي واجبا ؛ لأن ما وعد الله به واجب الوقوع ، لأنه لا يخلف الميعاد ، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ، ويستأنس لهذا القول بلفظة " على " في قوله : كان على ربك وعدا مسئولا كقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقال بعض أهل العلم : إن المسلمين يوم القيامة يقولون : قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا ، والقولان الأولان أقرب من هذا . والعلم عند الله تعالى .