اعلم أن قوله : تبارك فعل جامد لا يتصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، [ ص: 5 ] ولا اسم فاعل ، ولا غير ذلك ، وهو مما يختص به الله تعالى ، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن ، وإسناده تبارك إلى قوله : الأصمعي الذي نزل الفرقان ، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه ، كما أوضحناه في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، وإطلاق العرب تبارك مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم ، ومنه قول الطرماح :
تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقول الآخر :
فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر
.
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] . وقوله : الفرقان ، يعني هذا القرآن العظيم ، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان ، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل ; لأن معنى كونه فرقانا أنه فارق بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغي ، وقال بعض أهل العلم : المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول ; لأنه نزل مفرقا ، ولم ينزل جملة .
واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [ 17 \ 106 ] وقوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : نزل بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجما منجما . قال بعض أهل العلم : ويدل على ذلك قوله في أول سورة " آل عمران " : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل [ 3 \ 3 ] قالوا : عبر في نزول القرآن بـ : نزل بالتضعيف لكثرة نزوله . وأما التوراة والإنجيل ، فقد عبر في نزولهما بـ : أنزل التي لا تدل على تكثير ; لأنهما نزلا جملة في وقت واحد ، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرآن ; [ ص: 6 ] كقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] وقوله في هذه الآية : على عبده قال فيه بعض العلماء : ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان ، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات ، وقد بينا ذلك في أول سورة " بني إسرائيل " .