وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي أحيانا ، فكان الكفار يقولون : هلا اجتبيتها ، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : المراد هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك ، والمعنى : أن كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تدعيه ، كما قالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ، وقال : اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه ، أي : جمعه ، كقوله : اجتمع ، أو جبى إليه فاجتباه ، أي : أخذه ، كقولك : جليت العروس إليه فاجتلاها ، والمعنى : هلا اجتمعتها افتعالا من قبل نفسك ، وقال الزمخشري أيضا ابن عباس والضحاك : هلا تلقيتها ، وقال : هلا أخذتها منزلة عليك مقترحة ، انتهى ، وهذا القول منهم من نتائج الإمداد في الغي ، كانوا يطلبون آيات معينة على سبيل التعنت ، كقلب الصفا ذهبا ، وإحياء الموتى ، وتفجير الأنهار ، وكم جاءتهم من آية فكذبوا بها واقترحوا غيرها . الزمخشري
قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي بين أنه ليس مجيء الآيات إليه ، إنما هو متبع ما أوحاه الله تعالى إليه ، ولست بمفتعلها ولا مقترحها .
هذا بصائر من ربكم ، أي : هذا الموحى إلي الذي أنا أتبعه لا أبتدعه ، وهو القرآن بصائر ، أي : حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيات ، وهي جمع بصيرة ، كقوله : على بصيرة أنا ومن اتبعني ، أي : على أمر جلي منكشف ، وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات ; وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : ذو بصائر . وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ، أي : دلالة إلى الرشد ورحمة في الدارين ، وفي الدين والدنيا ، وخص المؤمنين ; لأنهم الذين يستبصرون ، وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ، ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ، ويؤمنون بما تضمنه ، وقال أبو عبد الله الرازي : أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سببا لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم [ ص: 452 ] البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب ، والناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام ، أحدها : الذين بالغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين ، فالقرآن في حقهم بصائر ، والثاني : الذين وصلوا إلى درجات المستدلين ، وهم أصحاب علم اليقين ، فهو في حقهم هدى ، والثالث : من اعتقد ذلك الاعتقاد الجزم وإن لم يبلغ مرتبة المستدلين ، وهم عامة المؤمنين ، فهو في حقهم رحمة ، ولما كانت هذه الفرق الثلاث من المؤمنين قال : لقوم يؤمنون ، انتهى ، وفيه تكميل ، وبعض تلخيص .