أبوك الذي أجدى عليه بنصره فأنصت عني بعده كل قائل
قال : يريد فأسكت عني . الآصال جمع أصل ، وهو العشي كعنق وأعناق ، أو جمع أصيل كيمين وأيمان ، ولا حاجة لدعوى أنه جمع جمع ، كما ذهب إليه بعضهم ; إذ ثبت أن أصلا مفرد وإن كان يجوز جمع أصيل على أصل ، فيكون جمعا ككثيب وكثب ، ومن ذهب إلى أن آصالا جمع أصل ، ومفرد أصل أصيل الفراء ، ويقال : جئناهم موصلين ، أي : عند الأصيل .
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها ، وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيها على أن الإعادة ممكنة ، كما أن الإنشاء كان ممكنا ، وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعا بالفعل ، وإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل ; وقيل : وجه المناسبة أنه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ، ويشتقون منها أسماء لآلهتهم وأصنامهم ، وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية ، بين هنا أن أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حين تمنيا الولد الصالح ، وأجاب الله دعاءهما فأدخل إبليس عليهما الشرك بقوله : سمياه عبد الحارث فإنه لا يموت ففعلا ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : لما أمر بالنظر في الملكوت الدال على الوحدانية ، وقسم خلقه إلى مؤمن وكافر ، ونفى قدرة أحد من خلقه على نفع نفسه أو ضرها ، رجع إلى تقرير التوحيد ، انتهى ، والجمهور على أن المراد بقوله : من نفس واحدة آدم - عليه السلام - فالخطاب بخلقكم عام ، والمعنى : أنكم تفرعتم من آدم - عليه السلام - وأن معنى وجعل منها زوجها هي حواء ، ومنها إما من جسم آدم من ضلع من أضلاعه ، وإما أن يكون من جنسها ، كما قال تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وقد مر هذان القولان في أول النساء مشروحين بأكثر من هذا ، ويكون الإخبار بعد هذه الجملة عن آدم وحواء ، ويأتي تفسيره إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا القول فسر الآية ، وقد رد هذا القول الزمخشري أبو عبد الله الرازي وأفسده من وجوه . الأول : فتعالى الله عما يشركون فدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة . الثاني : أنه قال بعده : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، وهذا رد على من جعل الأصنام شركاء ، ولم يجر لإبليس في هذه الآية ذكر ، الثالث : لو كان المراد إبليس ، لقال : أيشركون من لا يخلق ، ثم ذكر الرازي ثلاثة وجوه أخر من جهة النظر يوقف عليها من كتابه ، وقال الحسن وجماعة : الخطاب لجميع الخلق ، والمعنى في هو الذي خلقكم من نفس واحدة : من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها ، أي : من جنسها ، ثم ذكر حال الذكر والأنثى من الخلق ، ومعنى جعلا له شركاء ، أي : حرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، كما جاء : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه . وقال القفال نحو هذا القول ، قال : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها ، وذكر حال الزوج والزوجة ، وجعلا ، أي : الزوج والزوجة ، لله تعالى شركاء فيما آتاهما ; لأنهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب ، كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان ، كما هو قول عبدة [ ص: 439 ] الأصنام ، انتهى ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية ; وقيل : الخطاب بخلقكم خاص ، وهو لمشركي العرب ، كما يقربون المولود للات والعزى والأصنام تبركا بهم في الابتداء ، وينقطعون بأملهم إلى الله تعالى في ابتداء خلق الولد إلى انفصاله ، ثم يشركون فحصل التعجب منهم ; وقيل : الخطاب خاص أيضا ، وهو لقريش المعاصرين للرسول ، و نفس واحدة هو قضى منها ، أي : من جنسها زوجة عربية قرشية ليسكن إليها ، والصالح : الولد السوي ، جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة : عبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار ، والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، انتهى . ليسكن إليها ليطمئن ويميل ، ولا ينفر ; لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس ، وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أكثر لكونه بعضا منه ، وأنث في قوله : منها ، ذهابا إلى لفظ النفس ، ثم ذكر في قوله : ليسكن ، حملا على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أو غيره على اختلاف التأويلات ، وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى .
فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به إن كان الخبر عن آدم فخلق حواء كان في الجنة ، وأما التغشي والحمل فكانا في الأرض ، والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ، ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى ، ويحتمل أن يكون حملا مصدرا ، وأن يكون ما في البطن ، والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس الشجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة ، وحكى يعقوب في حمل النخل ، وحكى أبو سعيد في حمل المرأة خمل وحمل ، وقال ابن عطية : الحمل الخفيف هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ عن حماد بن سلمة ابن كثير : حملا ، بكسر الحاء ، وقرأ الجمهور : فمرت به ، قال الحسن : أي : استمرت به ; وقيل : هذا على القلب ، أي : فمر بها ، أي : استمر بها ، وقال : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ; وقيل : حملت حملا خفيفا يعني النطفة ، فمرت به : فقامت به وقعدت فاستمرت به ، انتهى ، وقرأ الزمخشري فيما ذكر ابن عباس النقاش وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب : فمرت به ، خفيفة الراء من المرية ، أي : فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض ; وقيل : معناه استمرت به لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه ، نحو : وقرن ، فيمن فتح من القرار ، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري : فمارت به ، بألف وتخفيف الراء ، أي : جاءت وذهبت وتصرفت به ، كما تقول : مارت الريح مورا ، ووزنه فعل ، وقال : من المرية ، كقوله تعالى : الزمخشري أفتمارونه ومعناه ومعنى المخففة فمرت : وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ، ووزنه فاعل ، وقرأ عبد الله : فاستمرت بحملها ، وقرأ سعد بن أبي وقاص أيضا وابن عباس والضحاك : فاستمرت به ، وقرأ أبي بن كعب والجرمي : فاستمارت به ، والظاهر رجوعه إلى المرية بنى منها استفعل ، كما بنى منها فاعل في قولك : ماريت .
فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين [ ص: 440 ] أي : دخلت في الثقل ، كما تقول : أصبح وأمسى ، أو صارت ذات ثقل ، كما تقول : أتمر الرجل وألبن ، إذا صار ذا تمر ولبن ، وقال : أي حان وقت ثقلها ، كقوله : أقربت ، وقرئ : أثقلت ، على البناء للمفعول ، ربهما ، أي : مالك أمرهما الذي هو الحقيق أن يدعى ، ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم ، أي : دعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيهما صالحا ، ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين إن آتاهما صالحا ; لأن إيتاء الصالح نعمة من الله على والديه ، كما جاء في الحديث : إن عمل ابن الزمخشري آدم ينقطع إلا من ثلاث ، فذكر الولد الصالح يدعو لوالده ، فينبغي الشكر عليها ; إذ هي من أجل النعم ، ومعنى صالحا مطيعا لله تعالى ، أي : ولدا طائعا ، أو ولدا ذكرا ; لأن الذكورة من الصلاح والجودة ، قال الحسن : سمياه غلاما ، وقال : بشرا سويا سليما ، ولنكونن جواب قسم محذوف ، تقديره : وأقسما لئن آتيتنا ، أو مقسمين لئن آتيتنا ، وانتصاب صالحا على أنه مفعول ثان لآتيتنا ، وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر ، أي : ابنا صالحا . ابن عباس
فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما من جعل الآية في آدم وحواء جعل الضمائر والأخبار لهما ، وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا حديث صحيح ، فأطرحت ذكرها ، وقال : والضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكل من تناسل من ذريتهما ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء ، أي : جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك فيما آتاهما ، أي : آتى أولادهما ، وقد دل على ذلك بقوله تعالى : الزمخشري فتعالى الله عما يشركون حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله بتسمية أولادهم بعبد العزى وعبد مناف وعبد شمس وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم ، انتهى ، وفي كلامه تفكيك للكلام عن سياقه وغيره ممن جعل الكلام لآدم وحواء جعل الشرك تسميتهما الولد الثالث عبد الحارث ; إذ كان قد مات لهما ولدان قبله كانا سميا كل واحد منهما عبد الله ، فأشار عليهما إبليس في أن يسميا هذا الثالث عبد الحارث فسمياه به حرصا على حياته ، فالشرك الذي جعلا لله هو في التسمية فقط ، ويكون الضمير في يشركون عائدا على آدم وحواء وإبليس ; لأنه مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ; وقيل : جعلا ، أي : جعل أحدهما يعني حواء ، وإما من جعل الخطاب للناس ، وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء ، أو جعل الخطاب لمشركي العرب ، أو لقريش على ما تقدم ذكره فيتسق الكلام اتساقا حسنا من غير تكلف تأويل ولا تفكيك ، وقال السدي : ثم أخبر والطبري آدم وحواء في قوله : فيما آتاهما ، وقوله : فتعالى الله عما يشركون كلام منفصل يراد به مشركو العرب ، قال ابن عطية : وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، انتهى ، والضمير في له عائد على الله ، ومن زعم أنه عائد على إبليس فقوله بعيد ; لأنه لم يجر له ذكر ، وكذا يبعد قول من جعله عائدا على الولد الصالح وفسر الشرك بالنصيب من الرزق في الدنيا وكانا قبله يأكلان ويشربان وحدهما ، ثم استأنف فقال : فتعالى الله عما يشركون يعني الكفار ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وإبان بن ثعلب ونافع وأبو بكر عن عاصم شركا على المصدر ، وهو على حذف مضاف ، أي : ذا شرك ، ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك ، كقوله : زيد عدل ، قال : أو أحدثا لله إشراكا في الولد ، انتهى ، وقرأ الأخوان الزمخشري وابن كثير وأبو عمرو شركاء على الجمع ، ويبعد توجيه الآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة ، وتظهر باقي الأقوال عليها ، وفي مصحف أبي : فلما آتاهما صالحا أشركا فيه ، وقرأ السلمي : عما تشركون ، بالتاء ، التفاتا من الغيبة للخطاب ، وكان الضمير بالواو ، [ ص: 441 ] وانتقالا من التثنية للجمع ، وتقدم توجيه ضمير الجمع على من يعود .
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، أي : أتشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلق شيء ، كما يخلق الله وهم يخلقون ، أي : يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما يوجدكم ، أو يكون معناه : وهم ينحتون ويصنعون ، فعبدتهم يخلقونهم وهم لا يقدرون على خلق شيء ، فهم أعجز من عبدتهم ، وهم عائد على معنى ما ، وقد عاد الضمير على لفظ ما في يخلق ، وعبر عن الأصنام بقوله : وهم ، كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائهم . وقيل : أتى بضمير من يعقل ; لأن جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم ، فغلب من يعقل كل مخلوق لله تعالى ، ويحتمل أن يكون وهم عائدا على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون ، أي : وهؤلاء المشركون يخلقون ، أي : كان يجب أن يعتبروا بأنهم مخلوقون ، فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئا . وقرأ السلمي : أتشركون ، بالتاء من فوق فيظهر أن يكون وهم عائدا على ما على معناها ، ومن جعل ذلك في آدم وحواء قال : إن إبليس جاء إلى آدم ، وقد مات له ولد اسمه عبد الله ، فقال : إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس فسماه كذلك ، فإياه عنى بقوله : أتشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس . ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ، أي : ولا تقدر الأصنام لمن يعبدهم على نصر ولا لأنفسهم إن حدث بهم حادث ، بل عبدتهم الذين يدفعون عنها ويحمونها ، ومن لا يقدر على نصر نفسه كيف يقدر على نصر غيره ؟
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون الظاهر أن الخطاب للكفار ، انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الالتفات والتوبيخ على عبادة غير الله ، ويدل على أن الخطاب للكفار قوله بعد : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه هذه الضمائر قبل ، وهو الأصنام ، والمعنى : وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم ، كما تطلبون من الله الهدى والخير لا يتبعوكم على مرادكم ولا يجيبوكم ، أي : ليست فيهم هذه القابلية ; لأنها جماد لا تعقل ، ثم أكد ذلك بقوله : سواء عليكم ، أي : دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيان ، فكيف يعبد من هذه حاله ؟ وقيل : الخطاب للرسول والمؤمنين ، وضمير النصب للكفار ، أي : وإن تدعوا الكفار إلى الهدى لا يقبلوا منكم فدعاؤكم وصمتكم سيان ، أي : ليست فيهم قابلية قبول ولا هدى ، وقرأ الجمهور : لا يتبعوكم ، مشددا هنا وفي الشعراء : يتبعهم الغاوون من اتبع ، ومعناها : لا يقتدوا بكم ، وقرأ نافع فيهما لا يتبعوكم مخففا من تبع ، ومعناه : لا يتبعوا آثاركم ، وعطفت الجملة الاسمية على الفعلية ; لأنها في معنى الفعلية ، والتقدير : أم صمتم ، وقال ابن عطية : وفي قوله : أدعوتموهم أم أنتم عطف الاسم على الفعل ; إذ [ ص: 442 ] التقدير : أم صمتم ، ومثل هذا قول الشاعر :
سواء عليك النفر أم بت ليلة بأهل القباب من نمير بن عامر
انتهى ، وليس من عطف الاسم على الفعل ، إنما هو من عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية ، وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل ، بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدر بالجملة الفعلية ; إذ أصل التركيب : سواء عليك أنفرت أم بت ليلة ، فأوقع النفر موقع أنفرت ، وكانت الجملة الثانية اسمية لمراعاة رءوس الآي ، ولأن الفعل يشعر بالحدوث ، واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار ، فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم ، وإذا لم يحدث بقوا ساكتين ، فقيل : لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء ، وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة .
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شيء من نفع أو ضر ، أي : الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد ، وسمى الأصنام عبادا وإن كانت جمادات ; لأنهم كانوا يعتقدون فيها أنها تضر وتنفع ، فاقتضى ذلك أن تكون عاقلة [ ص: 443 ] وأمثالكم . قال الحسن في كونها مملوكة لله ، وقال التبريزي في كونها مخلوقة ، وقال مقاتل : المراد طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم تعالى أنهم عباد أمثالهم لا آلهة ، انتهى ، فعلى هذا جاء الإخبار إخبارا عن العقلاء ، وقال : الزمخشري عباد أمثالكم استهزاء بهم ، أي : قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فمنهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم ، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم ، فقال : ألهم أرجل يمشون بها انتهى ؟ وليس كما زعم ; لأنه تعالى حكم على [ ص: 444 ] هؤلاء المدعوين من دون الله أنهم عباد أمثال الداعين ، فلا يقال في الخبر من الله ، فإن ثبت ذلك لأنه ثابت ولا يصح أن يقال ، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم ، فقال : ألهم أرجل لأن قوله : ألهم أرجل ليس إبطالا لقوله : عباد أمثالكم ; لأن المثلية ثابتة ، إما في أنهم مخلوقون ، أو في أنهم مملوكون مقهورون ، وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وأنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للانتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ، ولا يدل إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر ، وأيضا فالأبطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى ; لأنه يدل على كذب أحد الخبرين ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى ، وقد بينا ذلك في قوله : أولئك كالأنعام بل هم أضل وقرأ ابن جبير إن خفيفة ، وعبادا أمثالكم ، بنصب الدال واللام ، واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أن إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الاسم ونصبت الخبر ، فعبادا أمثالكم خبر منصوب ، قالوا : والمعنى : بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر ، بل هم أقل وأحقر ; إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل ، وإعمال إن إعمال ما الحجازية فيه خلاف ، أجاز ذلك وأكثر الكوفيين ، ومن البصريين الكسائي ابن السراج والفارسي ، ومنع من إعماله وابن جني الفراء وأكثر البصريين ، واختلف النقل عن سيبويه ، والصحيح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم ، وقد ذكرنا ذلك مشبعا في شرح التسهيل ، وقال والمبرد النحاس : هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها بثلاث جهات : إحداها : أنها مخالفة للسواد ، والثانية : أن يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما ، فيقول : إن زيد منطلق ; لأن عمل ما ضعيف وإن بمعناها فهي أضعف منها ، والثالثة : أن سيبويه رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب ، انتهى ، وكلام الكسائي النحاس هذا هو الذي لا ينبغي ; لأنها قراءة مروية عن تابعي جليل ولها وجه في العربية ، وأما الثلاث جهات التي ذكرها فلا يقدح شيء منها في هذه القراءة ، أما كونها مخالفة للسواد ، فهو خلاف يسير جدا لا يضر ، ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسواد ، وأما ما حكي عن فقد اختلف الفهم في كلام سيبويه في إن ، وأما ما حكاه عن سيبويه ، فالنقل عن الكسائي أنه حكى إعمالها ، وليس بعدها إيجاب ، والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن إن للنفي ليس بصحيح ; لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عبادا أمثال عابديها ، وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين الآخر ، وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى ، وقد خرجت هذه القراءة في شرح التسهيل على وجه غير ما ذكروه ، وهو أن إن هي المخففة من الثقيلة وأعملها عمل المشددة ، وقد ثبت أن إن المخففة يجوز إعمالها عمل المشددة في غير المضمر بالقراءة المتواترة : الكسائي وإن كلا لما وبنقل عن العرب ، لكنه نصب في هذه القراءة خبرها نصب سيبويه في قوله : عمر بن أبي ربيعة المخزومي
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إن وأخواتها ، واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون ، فهذه القراءة الشاذة تتخرج على هذه اللغة ، أو تتأول على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب ، وهو أنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل ، كما قالوا في قوله :
يا ليت أيام الصبا رواجعا
إن تقديره : أقبلت رواجعا ، فكذلك تؤول هذه القراءة على إضمار فعل ، تقديره : إن الذين تدعون من دون الله تدعون عبادا أمثالكم ، وتكون القراءتان قد [ ص: 445 ] توافقتا على معنى واحد ، وهو الإخبار أنهم عباد ، ولا يكون تفاوت بينهما وتخالف لا يجوز في حق الله تعالى ، وقرئ أيضا إن مخففة ، ونصب عبادا على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين ، وأمثالكم بالرفع على الخبر ، أي : إن الذين تدعونهم من دون الله في حال كونهم عبادا أمثالكم في الخلق أو في الملك ، فلا يمكن أن يكونوا آلهة ، فادعوهم ، أي : فاختبروهم بدعائكم هل يقع منهم إجابة أو لا يقع ، والأمر بالاستجابة هو على سبيل التعجيز ، أي : لا يمكن أن يجيبوا ، كما قال : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ومعنى إن كنتم صادقين في دعوى إلهيتهم واستحقاق عبادتهم ، كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا