( قل لست عليكم بوكيل ) أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد . وقيل : ( بوكيل ) بمسلط ، وقيل : لا أقدر على منعكم من التكذيب إجبارا إنما أنا منذر . قال ابن عطية : وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ . وقيل : لا نسخ في هذا إذ هو خبر . والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ : لست الآن . وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل .
( لكل نبإ مستقر ) أي لكل أجل شيء ينبئ به ، يعني من إنبائه بأنهم يعذبون ، وإيعادهم به وقت استقرار وحصول لا بد منه . وقيل : لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر . وقال : استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم السدي بدر . وقال مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر ، وفي الآخرة جهنم .
( وسوف تعلمون ) مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أن يكون تهديدا بعذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون تهديدا بالحرب وأخذهم بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء .
( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) هذا خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم . وقيل : هو خاص به وحده لأن قيامه عنهم كان يشق عليه وفراقه على مغاضبه ، والمؤمنون عندهم ليسوا كهو . وقيل : خطاب للسامع والذين يخوضون : المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ، ثلاثة أقوال .
و ( رأيت ) هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة . وقيل : ( رأيت ) علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر ، وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا خائضين فيها ، وحذفه اقتصارا لا يجوز ، وحذفه اختصارا عزيز جدا ، حتى أن بعض النحويين منعه ، والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها . وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك ، ( فأعرض عنهم ) أي : لا تجالسهم وقم عنهم ، وليس إعراضا بالقلب وحده ، بينه ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) ، وقد تقدم من قول المفسرين في هذه الآية أن قوله : ( وقد نزل عليكم في الكتاب ) أن الذي نزل في الكتاب هو قوله : ( وإذا رأيت الذين يخوضون ) الآية و ( حتى يخوضوا ) ، غاية للإعراض عنهم أي : فلا بأس أن تجالسهم ، والضمير في ( غيره ) قال الحوفي : عائد إلى الخوض ، كما قال الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه . وقال أبو البقاء : إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآيات ولأنها حديث ، وقول : ( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) أي : إن شغلك [ ص: 153 ] بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى ، أي ذكرك النهي . قال : ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين ; لأنها مما تنكره العقول ، فلا تقعد بعد الذكرى ، أي : بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه ، معهم . انتهى . وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهي عن القعود معهم قبل ، ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط فكله مستقبل ، وما أحسن مجيء الشرط الأول بـ ( إذا ) التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ، ومجيء الشرط الثاني بـ ( إن ) لأن ( إن ) لغير المحقق ، وجاء ( الزمخشري مع القوم الظالمين ) تنبيها على علة الخوض في الآيات والطعن فيها ، وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها . قال ابن عطية : و ( إما ) شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب ، وقد لا تلزم كما قال الشاعر :
إما يصبك عدو في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة . انتهى . وهذه المسألة فيها خلاف . ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد ( إن ) ( ما ) لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة ، وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وأنه يجوز في الكلام ، وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة ، وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجئ فيها بعد ( إما ) إلا الثقيلة .
وقرأ ابن عامر : ( ينسينك ) مشددا عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة . وقال ابن عطية ، وقد ذكر القراءتين : إلا أن التشديد أكثر مبالغة . انتهى . وليس كما ذكر ، لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة . ومفعول ( ينسينك ) الثاني محذوف ، تقديره : وإما ينسينك الشيطان نهينا إياك عن القعود معهم . والذكرى مصدر ذكر ، جاء على فعلى وألفه للتأنيث ، ولم يجئ مصدر على فعلى غيره .
( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) ، ( الذين يتقون ) هم المؤمنون ، والضمير في ( حسابهم ) عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات . وروي أن المؤمنين قالوا لما نزلت ( فلا تقعدوا معهم ) : لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم ، فنزلت ( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) ، فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها ، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله : ( وما على الذين يتقون ) ، أمر هو بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم . وقيل : للمتقين وهو رأسهم أي : ما عليكم من حسابهم من شيء .
( ولكن ذكرى ) أي : ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم .
( لعلهم يتقون ) أي : لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياء منكم ورغبة في مجالستكم ، قاله مقاتل ، أو لعلهم يتقون الوعيد بتذكيركم إياهم . وقيل : المعنى لا تقعدوا معهم ولا [ ص: 154 ] تقربوهم حتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم ، وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقون أي : تثبتون على تقواكم وتزدادونها ، فالضمير في ( لعلهم ) عائد على ( الذين يتقون ) ، ومن قال : الخطاب في " وإذا رأيت " خاص بالرسول قال : ( الذين يتقون ) للمؤمنين دونه ، ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال : يا محمد لا تقعد معهم ، وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم ، فإن قعدوا فليذكروهم ( لعلهم يتقون ) الله في ترك ما هم عليه . وقال هذا القائل : هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء . و ( ذكرى ) يحتمل أن تكون في موضع نصب أي : ولكن تذكرونهم ، ومن قال : الإباحة كانت بسبب العبادات قال : نسخ ذلك آية النساء ، أو ذكروهم في موضع رفع أي : ولكن عليهم ذكرى ، وقدره بعضهم : ولكن هو ذكرى ، أي : الواجب ذكرى . وقيل : هذا ذكرى أي النهي ذكرى . قال : ولا يجوز أن يكون عطفا على محل ( الزمخشري من شيء ) كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد ; لأن قوله : ( من حسابهم ) يأبى ذلك . انتهى . كأنه تخيل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم ; لأنه قيد في شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفا على ( من شيء ) على الموضع ; لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى على هذا ، وهذا الذي تخيله ليس بشيء . لا يلزم في العطف بـ ( ولكن ) ما ذكر ، تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق ، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل ، فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات ، والعطف إنما هو للواو ، ودخلت ( لكن ) للاستدراك . قال ابن عطية : وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه . وحكى عن الطبري أبي جعفر أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله ، تعالى .