مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع . وذكر تعظيم الكعبة بقوله : ( هديا بالغ الكعبة ) ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياما للناس; أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد ، وصارت وازعة لهم من الأذى ، وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون نارا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم ، فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك ، هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياما للناس ، فكانوا لا يهيجون أحدا في الشهر الحرام ، ولا من ساق الهدي; لأنه لا يعلم أنه لم يجئ لحرب ، ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة ، فتقلد من لحي الشجر ، ولا من قضى نسكه ، فتقلد من شجر الحرم . ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة " فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك ، وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ، ورجع عن رسالة قريش ، وجعل هنا بمعنى صير . وقيل : جعل بمعنى بين ، وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى ، إذ لم ينقل ( جعل ) مرادفة لهذا المعنى ، لكنه من حيث التصيير ، يلزم منه التبيين ، والحكم . ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام ، كالبيت الذي كان في خثعم ، يسمى كعبة اليمانية ، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام ، وهو بدل من الكعبة ، أو عطف بيان . وقال : البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك انتهى ، وليس كما ذكر; لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود ، فإذا كان شرطه أن يكون جامدا ، لم يكن فيه إشعار بمدح ، إذ ليس مشتقا ، وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله ( الحرام ) ، اقتضى المجموع المدح ، فيمكن ذلك . والقيام مصدر كالصيام ، ويقال هذا قيام له ، وقوام له ، وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدرا ، بل هو اسم كالسواك ، فلذلك صحت الواو . قال : قوام دنيا وقيام دين . إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء . قالوا القيامة ، واختلفوا في تفسير قوله ( الزمخشري قياما للناس ) فقيل باتساع الرزق عليهم ، إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق . وكانت مكة لا زرع ولا ضرع ، وقيل : بامتناع الإغارة في الحرم ، وقيل : بسبب صيرورتهم أهل الله ، فكل أحد يتقرب إليهم ، وقيل : بما يقام فيها من المناسك ، وفعل العبادات ، وروي عن ، وقيل : يأمن من توجه إليها ، وروي عنه ، وقيل : بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ، ولجأ إليها ، وقيل : ببقاء الدين ما حجت واستقبلت . وقال ابن عباس عطاء : لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا [ ص: 26 ] ولم يؤخروا . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يبعد حمله على جميع الوجوه; لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع ، وبدفع المضار ، وبحصول الجاه والرئاسة ، وبحصول الدين . والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى .
وقرأ ابن عامر ( قيما ) ، بغير ألف ، فإن كان أصله قياما بالألف وحذفت ، فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر ، وإن كان مصدرا على ( فعل ) ، فكان قياسه أن تصح فيه الواو ، كعوض . وقرأ الجحدري قيما ، بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة ، وهو كسيد; اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ، ولفظ الناس عام فقيل المراد العموم . وقيل : المراد العرب . قال أبو عبد الله بن أبي الفضل ، وحسن هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا ، لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم ، فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى . والشهر الحرام ظاهره الإفراد ، فقيل هو ذو الحجة وحده ، وبه بدأ قال : لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأنا قد عرفه الله انتهى . وقيل : المراد الجنس ، فيشمل الأشهر الحرم الأربعة . الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر ، وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ، ولذلك يسمى شهر الله ، إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة ، فنسبه وسدده . والمعنى شهر آل الله ، وهو شهر الزمخشري قريش ; وله يقول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا إذا حبست مضرجها الدماء
ولما كانت الكعبة موضعا مخصوصا لا يصل إليه كل خائف ، جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد ، قياما للناس كالكعبة .( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم; أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياما للناس وأمنا لهم; ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السماوات والأرض ، ومصالحكم في دنياكم ودينكم ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ! . وأجاز أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد ، وغيره . وقال الزمخشري : الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الإخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار ، مثل قوله ( الزجاج سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) . ومثل إخباره بتحريفهم الكتب; أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض . وقيل : الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة ، فيعيش أهلها معهم ، ولولا ذلك ماتوا جوعا; لعلمه بما في مصالحهم ، وليستدلوا على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض .
( وأن الله بكل شيء عليم ) هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات ، كقوله تعالى ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) .