( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) أي : وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك ، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط ، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل ، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه . فقال : فيه وجهان : أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا ، كان أمرا شنيعا . وقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : ( الزمخشري فكأنما قتل الناس جميعا ) والثاني : أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله ، عليه السلام ، : ( فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك ) . وقال ابن عطية أي : إن تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتد به . فمعنى : وإن لم تفعل ، وإن لم تستوف . ونحو هذا قول الشاعر :
سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي إن لم تعط ما يعد نائلا وألا تتكاذب . . . . . . البيت . وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب الجمهور بإن لم تبلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا . وهذا ضعيف ، لأن من أتى بالبعض وترك البعض . فإن قيل : إنه ترك الكل كان كاذبا ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحال الممتنع ، فسقط هذا الجواب . انتهى . وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به ، لأنه قال : فإن قيل إنه ترك الكل - كان كاذبا ، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا : إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا . كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن ، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به ، وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع ، فلا استحالة فيه . ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم ، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم ، ويؤاخذ بالذنب الحقير : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية ، رتب على من أخذ شيئا بالاختفاء والتستر ، قطع اليد مع رد ما أخذه أو قيمته ، ورتب على من أخذ شيئا بالقهر والغلبة والغصب رد ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون [ ص: 530 ] قطع اليد . وقال أبو عبد الله الرازي : والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله : أنا أبو النجم وشعري شعري ، ومعناه : أن شعري بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها ، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه ، فكذا ههنا . قال : فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ; يعني : أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم ، فكان ذلك تنبيها على التهديد والوعيد . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : رسالاته ; على الجمع . وقرأ باقي السبعة على التوحيد .
( والله يعصمك من الناس ) أي : لا تبال في التبليغ ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة ولا باغتيال ، ولا باستيلاء عليك بأخذ وأسر . قال : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ليقتله . انتهى ، وهو محمد بن كعب غورث بن الحارث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع .
وروى المفسرون أن أبا طالب كان يرسل رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : ( والله يعصمك من الناس ) ; فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا أحتاج إلى من يحرسني . وقال : كان يهاب ابن جريج قريشا فلما نزلت استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثا . وروى أبو أمامة ركانة " " 0000 من ولد هاشم مشركا أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثلاثا ودعاه إلى الإسلام ، فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه . وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره معه وضحك ، وقرأ والله يعصمك من الناس . وهذا وما قبله يدل على أن ذلك نزل حديث " بمكة أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها بالمدينة والرسول بها مقيم شهرا ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام حتى غط ، فنزلت ، فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال : ( انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني ) وأصل هذا الحديث في صحيح نزلت مسلم : وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل : الآية نزلت بعد أحد ، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد ، وما أعظم تكليفهم . وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار ، والناس : عام يراد به الكفار ; يدل عليه ما بعده . وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به ، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصد الأعداء له مغالبة واغتيالا . وفيه دليل على صحة نبوته ، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى ، وكذا جميع ما أخبر به .
( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أي : إنما عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدا ، فيكون خاصا . قال ابن عطية : أما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره . وقال : ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله ، بل من الهلاك . انتهى . وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك . وقيل : المعنى لا يهديهم إلى الجنة . والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولا . الزمخشري