( فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرد بني إسرائيل وعصيانهم أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتو وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان أول من سن القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه ، ومن حيث المعصية بهما . وأيضا فتقدم قوله أوائل الآيات ( إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) وبعده ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) وقوله : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أن عدم اتباع بني إسرائيل محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه .
وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ، ومن الإخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ودعواه مع المعصية ، ومن القتل ، ومن الحسد . ومعنى واتل عليهم : أي اقرأ واسرد ، والضمير في ( عليهم ) ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولا ، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول والمؤمنين فأعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي ، لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوة . والنبأ : هو الخبر . وابنا آدم في قول الجمهور - عمر وابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه . وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل . قال : لأن القربان إنما كان مشروعا في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ، ووهم الحسن في ذلك . وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب ؟ وأيضا فقد قال الرسول عنه : " إنه أول [ ص: 461 ] من سن القتل " وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل .
ويحتمل قوله : بالحق ، أن يكون حالا من الضمير في : واتل ; أي : مصحوبا بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف ; أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في " إذ " " نبأ " ; أي : حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت . وقال : ويجوز أن يكون بدلا من النبأ ; أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف . انتهى . ولا يجوز ما ذكر ، لأن ( إذ ) لا يضاف إليها إلا الزمان ، و ( نبأ ) ليس بزمان . الزمخشري
وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توأمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها إقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثارا لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل : أمرهما آدم بتقريب القربان . وقيل : تقربا من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائبا توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه . والقربان الذي قرباه : هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابيل وكان صاحب غنم ، فتقبل من أحدهما وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل ; أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل . وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء . وقال : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب . انتهى . وليس تقرب بصدقة مطاوع قرب صدقة ، لاتحاد فاعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ، ومن الآخر انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش . الزمخشري
( قال لأقتلنك ) هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكدا بالقسم المحذوف ; أي : لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي . وقرأ : لأقتلنك بالنون الخفيفة . زيد بن علي
( قال إنما يتقبل الله من المتقين ) قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ؟ أما إني أتقيه ، وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين ، وخطب هنا فقال : ( فإن قلت ) : كيف كان قوله : الزمخشري إنما يتقبل الله من المتقين ، جوابا لقوله : لأقتلنك ؟ ( قلت ) : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل ، قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني ؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم . وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت ، قال : إني أسمع الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) انتهى كلامه . ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولا كاف وهو : أن المعنى لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقيا ، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قررها الله تعالى ، وقصد خلافها ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله . قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة [ ص: 462 ] وقال وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة . وقول من زعم أن قوله : عدي بن ثابت إنما يتقبل الله من المتقين ; ليس من كلام المقتول ، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضا بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في ( قال ) على الله - ليس بظاهر .