[ ص: 297 ] ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) خرج في سننه عن النسائي : ابن عباس وأصحابا له أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بمكة فقالوا : يا نبي الله كنا في عز ، ونحن مشركون ؛ فلما آمنا صرنا أذلة . فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ؛ فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله هذه الآية . ونحو هذا روي عن أن قتادة والسدي ، ومقاتل . وروي عن أيضا : نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمن المتقدم . قال ابن عباس أبو سليمان الدمشقي : كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا : ابعث لنا ملكا .
وقال مجاهد : نزلت في اليهود . وقال الحسن : في المؤمنين لقوله : يخشون الناس ; أي مشركي مكة . والخشية هي ما طبع عليه البشر من المخافة ، لا على المخالفة . ونحو ما قال الحسن . قال : قال كع فريق منهم لا شكا في الدين ولا رغبة عنه ؛ ولكن نفورا عن الأخطار بالأرواح ، وخوفا من الموت . وقال قوم : كان كثير من العرب استحسنوا الدخول في الدين على فرائضه التي قبل القتال من الصلاة والزكاة ، ونحوها والموادعة ، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم ، وجزعوا له فنزلت . الزمخشري
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ; لأنه تعالى لما أمر بالقتال حين طلبوه وجب امتثال أمر الله ؛ فلما كع عنه بعضهم قال تعالى : ألا تعجب يا محمد من ناس طلبوا القتال فأمروا بالموادعة ؛ فلما كتب عليهم فرق فريق وجزع . ومعنى كفوا أيديكم ; أي عن القتال ، يدل عليه : فلما كتب عليهم القتال . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يقال ( كفوا ) إلا للراغبين فيه ، وهم المؤمنون . وقيل يريد المنافقين . وإنما قال : كفوا ؛ لأنهم كانوا يظهرون الرغبة فيه ، انتهى .
وقال أيضا : ودلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد ، وهذا الترتيب هو المطابق لما في العقول ; لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله ، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله . ولا شك أنهما متقدمان على الجهاد . والفريق إما منافقون ، وإما مؤمنون ، أو ناس في الزمان المتقدم ، أو أسلموا قبل فرض القتال حسب اختلاف سبب النزول . والناس هنا أهل مكة قاله الجمهور ، أو كفار أهل الكتاب ، ومشركو العرب .
و ( لما ) حرف وجوب لوجوب على مذهب ، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب سيبويه أبي علي . وإذا كانت حرفا ، وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية ، وإذا كانت ظرفا فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر ; لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها ; لأن لما هي مضافة إلى الجملة بعدها . فقال بعضهم : العامل في لما معنى يخشون ، كأنه قيل جزعوا . قال : وجزعوا هو العامل في ( إذا ) بتقدير الاستقبال . وهذه الآية مشكلة ; لأن فيها ظرفين أحدهما لما مضى ، والآخر لما يستقبل ، انتهى . والذي نختاره مذهب في لما ، وأنها حرف . ونختار أن إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبرا للاسم المرفوع بعده على الابتداء ، ويصح أن يجعل معمولا للخبر . فإذا قلت : لما جاء زيد إذا عمرو قائم ، يجوز نصب قائم على الحال . وإذا حرف يصح رفعه على الخبر ، وهو عامل في إذا . وهنا يجوز أن يكون إذا معمولا ليخشون ، ويخشون خبر فريق . ويجوز أن يكون خبرا ، و ( يخشون ) حال من ( فريق ) ، و ( منهم ) على الوجهين صفة لفريق . ومن زعم أن إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد ; لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال ; لأن ( كتب ) ماض ، و ( إذا ) للمستقبل . وإن تسومح فجعلت ( إذا ) بمعنى إذ صار التقدير : فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم ، وهذا يفتقر إلى جواب ( لما ) ، ولا جواب لها . وإن كان العامل فيها ما بعدها احتاجت إلى جواب هو العامل فيها ، ولا جواب لها . والقول في إذا الفجائية : أهي ظرف زمان ؟ أم ظرف مكان ؟ أم حرف مذكور في [ ص: 298 ] علم النحو ؟ والكاف في سيبويه كخشية الله في موضع نصب . قيل على أنه نعت لمصدر محذوف ; أي خشية كخشية الله . وعلى ما تقرر من مذهب أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف ; أي يخشونها الناس أي يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله . سيبويه
وقال : فإن قلت : ما محل كخشية الله من الإعراب ؟ قلت : محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون أي يخشون الناس مثل أهل خشية الله ; أي مشبهين لأهل خشية الله . أو أشد خشية ، يعني : أو أشد خشية من أهل خشية الله . و ( أشد ) معطوف على الحال . فإن قلت : لم عدلت عن الظاهر ، وهو كونه صفة للمصدر ، ولم تقدره : يخشون خشية الله بمعنى مثل ما يخشى الله ؟ قلت : أبى ذلك قوله : الزمخشري أو أشد خشية ; لأنه وما عطف عليه في حكم واحد . ولو قلت : يخشون الناس أشد خشية لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق ، ولم ينتصب انتصاب المصدر لأنك لا تقول : خشي فلان أشد خشية ؛ فتنصب خشية ، وأنت تريد المصدر ؛ إنما تقول : أشد خشية فتجرها ، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه ، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية على حد قولهم : جد جده ، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشد خشية من خشية الله . ويجوز على هذا أن يكون محل ( أشد ) مجرورا عطفا على خشية الله ، يريد : كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها ، انتهى كلامه . وقد يصح خشية ، ولا يكون تمييزا فيلزم من ذلك ما التزمه ، بل يكون خشية معطوفا على محل الكاف ، وأشد منصوبا على الحال ; لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير : يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها . وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى : ( الزمخشري أو أشد ذكرا ) ، وأوضحناه هناك .
وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف ; أي كخشيتهم الله . وأو على بابها من الشك في حق المخاطب ، وقيل للإبهام على المخاطب . وقيل للتخيير . وقيل بمعنى الواو . وقيل بمعنى بل . وتقدم نظير هذه الأقوال في قوله : ( أو أشد قسوة ) ، ولو قيل إنها للتنويه ، لكان قولا يعني : أن منهم من يخشى الناس كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله .