الآناء : الساعات . وفي مفردها لغات : أني كمعي ، وأنى كفتى ، وأنى كنحى ، وأني كظبي ، وأنو كجرو . الصر : البرد الشديد المحرق . وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال :
لا تعدلن أتاويين تضر بهم نكباء صر بأصحاب المحلات
وقالت ليلى الأخيلية :ولم يغلب الخصم الألد ويملأ الــــجـفان سديفا يوم نكباء صرصر
[ ص: 33 ] وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار ، من الصرير . وهو الصوت من قولهم : صر الشيء ، ومنه الريح الصرصر . وقال الزجاج : والصر صوت النار التي في الريح . الزجاج
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار . يقال : بطن فلان من فلان بطونا وبطانة إذا كان خاصا به ، داخلا في أمره . وقال الشاعر :
أولئك خلصاني نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألوا
أي لم يقصروا . الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان . يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب والخبل والجنون . ويقال : خبله الحب أي أفسده .
البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء ، يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له .
الأفواه : معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه . ولم تنطق به العرب ، بل قالت : فم . وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو .
العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فعل بكسر العين ، وهو بالضاد . فأما عظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء ، قال :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
والعض - بضم العين - علف أهل الأمصار ، مثل الكسب والنوى المرضوض . يقال منه : أعض القوم ، إذا أكل إبلهم العض . وبعير عضاضي أي سمين ، كأنه منسوب إليه . والعض - بالكسر - : الداهية من الرجال .
الأنامل : جمع أنملة ، ويقال بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع . قال ابن عيسى : أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة . ومنه رجل نمل : أي نمام .
الغيض : مصدر غاض ، وغيض اسم علم .
الفرح : معروف ، يقال منه : فرح بكسر العين .
الكيد : المكر ، كاده يكيده ، مكر به ، وهو الاحتيال بالباطل . قال ابن قتيبة : وأصله المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت .
( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ) سبب النزول إسلام وغيره من عبد الله بن سلام اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم . قاله ، ابن عباس وقتادة ، . والواو في " وابن جريج ليسوا " هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، " وسواء " خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها .
( من أهل الكتاب أمة قائمة ) مبتدأ وخبر . وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس أهل الكتاب مستويا ، من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله :
عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها
التقدير : أم غي ، فحذف لدلالة " أرشد " ، وقال :
أراك فما أدري أهم ضممته وذو الهم قدما خاشع متضائل
يلومونني في شراء النخيـ ـل قومي وكلهم ألوم
واسم ليس : أمة قائمة ، أي ليس سواء ، من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة .
قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود . انتهى . ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو " أمة قائمة " فقط ، وأنه لا محذوف . ثم إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردودا . قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة " أكلوني البراغيث " ، وهي لغة رديئة ، والعرب على خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر . انتهى . وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيرا ما جاءت في الحديث . والإعراب الأول هو الظاهر ، وهو أن يكون " من أهل الكتاب أمة قائمة " مستأنف بيان لانتفاء التسوية ، كما جاء ( يأمرون بالمعروف ) بيانا لقوله : ( كنتم خير أمة ) والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى .
وأمة قائمة ، أي مستقيمة ، من أقمت العود فقام ، أي استقام . قال مجاهد والحسن : عادلة . وقال وابن جريج ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب الله وحدوده ، مهتدية . وقال : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأول . السدي
وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ تقدم ذكر اليهود وذكر هذه الأمة في قوله : " كنتم خير أمة " . والكتاب على هذا القول جنس كتب الله ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط . والمراد بقوله : " من أهل الكتاب أمة قائمة " - أهل القرآن . والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله : ( ولو آمن أهل الكتاب ) ؛ لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا . وقال عطاء : " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية ، يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - . وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءهم منه ، أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة ، وقيس بن صرمة بن أنس .
( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن . وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضا معطوفة على " يتلون " ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود . فتلاوة القرآن في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة . وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو " هم " والواو في " يسجدون " ، إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضا لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده .
وظاهر قوله : " آناء الليل " أنها جميع ساعات الليل . فيبعد صدور ذلك - أعني التلاوة والسجود - من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة ؛ إذ بعض الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة . وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل ، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين من يلتزمه ، وقد ذكر الله القصد في ذلك في أول المزمل . وآناء الليل : ساعاته . قاله الربيع وقتادة وغيرهما . وقال : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع . وعن السدي منصور : أنها نزلت في المصلين بين [ ص: 35 ] العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله : ( يتلون آيات الله آناء الليل ) . وعن : أنها صلاة العتمة . وذكر أن سبب نزولها هو احتباك النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العتمة ، وكان عند بعض نسائه ، فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فقال : " أبشروا ، فإنه ليس أحد من ابن مسعود أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة " ؛ ولهذا السبب ذكر أن قوله : " ابن مسعود ليسوا سواء " عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر . والظاهر من قوله : " وهم يسجدون " أنه أريد به السجود في الصلاة . وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع ، قاله مقاتل والفراء ؛ لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال ، أي يتلون آيات الله متلبسين بالصلاة . وقيل : سجود التلاوة . وقيل : أريد بالسجود الخشوع والخضوع . وذهب والزجاج وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأول ، أخبر عنهم أيضا أنهم أهل سجود ، ويحسنه أن كانت التلاوة في غير صلاة . ويكون أيضا على هذا التأويل في غير صلاة نعتا عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل . وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالا من الضمير في ( قائمة ) ، وحالا من ( أمة ) ؛ لأنها قد وصفت بـ ( قائمة ) . فتلخص في هذه الجملة قولان ، أحدهما أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة . والقول الآخر : أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعا بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون نصبا ، بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ، أو من أمة . ودلت هذه الآية على الطبري ، وقد جاء في كتاب الله : ( الترغيب في قيام الليل ومن الليل فتهجد به نافلة لك ) ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) ( ياأيها المزمل قم الليل ) . وفي الحديث : " " ، وفيه : يا عبد الله ، لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فتركه " وغير ذلك كثير . وعن رجل من نعم الرجل عبد الله ، إلا أنه لا يقوم من الليل بني شيبة كان يدرس الكتب ، قال : إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل : أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل .
( يؤمنون بالله واليوم والآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) تقدم تفسير مثل هذه الجمل .
( ويسارعون في الخيرات ) المسارعة في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ؛ لأن من رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي . وجاء في الحديث : " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك " .
وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة الله - بادروا إلى فعله . والظاهر في " يؤمنون " أن يكون صفة أي : تالية مؤمنة . وجوزوا أن تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في " يسجدون " ، وأن تكون بدلا من السجود . قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان . قال : وصفهم بخصائص ما كانت في الزمخشري اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ؛ لأن إيمانهم به كلا إيمان ؛ لإشراكهم به عزيرا وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات ؛ لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها . انتهى كلامه ، وهو حسن . ولما ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست ، إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم . ولما كانت الاستقامة وصفا ثابتا لها لا يتغير جاء باسم الفاعل . الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة الله بالليل . الثالثة : الإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة الله ، [ ص: 36 ] وذكر اليوم الآخر ؛ لأن فيه ظهور آثار عبادة الله من الجزاء الجزيل . وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ؛ إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجبا . الرابعة : الأمر بالمعروف . الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين . السادسة : المسارعة في الخيرات ، وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم . وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضا عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعديتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان .
( وأولئك من الصالحين ) هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند الله . قال : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين . انتهى . ويشبه قوله قول الزمخشري من أصحاب ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم . وفيما قاله بعد : بل الظاهر أن في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ؛ ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء ، فقال تعالى حكاية عن الزمخشري سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) وقال تعالى في حق إبراهيم - عليه السلام - : ( ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) وقال تعالى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ) وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل : ( وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ) . وقال : ( والشهداء والصالحين ) .
و " من " للتبعيض . وقال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس . انتهى . ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه .
( وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ) قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب . واختلفوا في المخاطب ، فقال أبو حاتم : هو مردود إلى قوله : ( كنتم خير أمة ) فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله . وقال : التاء فيها عموم لجميع الأمة . والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة أقبل عليهم تأنيسا لهم واستعطافا عليهم ، فخاطبهم بأن ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه ؛ ولذلك اقتصر على قوله : من خير ؛ لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشر . ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده . ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى " مكي أمة قائمة " قراءة الياء ، وهي قراءة ، ابن عباس وحمزة ، ، والكسائي وحفص ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو خير بين التاء والياء ، ومعلوم في هذه القراءة أن الضمير عائد على " أمة قائمة " ، كما عاد في قوله تعالى : " يتلون " وما بعده . وكفر : يتعدى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ، وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه .
( والله عليم بالمتقين ) لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين ، وإن كان عالما بالمتقين وبضدهم . ومعنى عليم بهم أنه مجازيهم على تقواهم ، وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين .
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة .
( وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة . وأنه لما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ذكر شيئا من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين . ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل [ ص: 37 ] ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ) لما ذكر تعالى أن ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا - أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلا اقتضى بطلانها وذهابها مجانا بغير عوض . قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم . وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم . وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر . وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين . قال : شبه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم ، والمفاخر ، وكسب الثناء ، وحسن الذكر بين الناس ، لا يبتغون به وجه الله - بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما . وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله . انتهى . الزمخشري
وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا ، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثورا ، وذهابه كالمثال القائم في النفس ، من زرع قوم نبت واخضر ، وقوي الأمل فيه ، فهبت عليه ريح صر محرق فأهلكته . انتهى . والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أي ينفقونه . والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث . فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ؛ ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار . وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول ، وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين . وهذا اختيار الزمخشري ابن عطية . قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ) . انتهى . ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون . أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وقيل : يجوز أن تكون " ما " مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح . وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال . وقال : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها . ويضعف هذا أنها في الكفار الذين يعلنون ، لا في المنافقين الذين يبطنون . وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم ، كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ، كما يبطل الريح الزرع . قال السدي ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق . انتهى . وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهر و أكثر . انتهى .
وقرأ ابن هرمز : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحا ؛ لأنها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : ( والأعرج بل هو ما استعجلتم به ريح ) " ولئن أرسلنا ريحا " ، " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا " " الريح العقيم " . كما أن الجمع مختص بالرحمة ( أن يرسل الرياح مبشرات ) ( وأرسلنا الرياح لواقح ) ( يرسل الرياح بشرا ) ؛ ولذلك روي : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا . وارتفاع ( صر ) على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح . فإن كان الصر البرد وهو قول ، ابن عباس والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة . فظاهر كون ذلك في الريح . وإن كان الصر صفة للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرة صر ، كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه . أو تكون الظرفية مجازا جعل الموصوف ظرفا للصفة . كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء . وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف . المعنى : الرحمن كاف ، والله كاف . وهذا فيه بعد .
وقوله : " أصابت حرث قوم " في موضع الصفة لريح . بدأ أولا بالوصف [ ص: 38 ] بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة . وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم . وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد ؛ إذ كان عقوبة لهم .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد . ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه . وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل . وخص هؤلاء بالذكر ؛ لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكنا ، ونحا إلى هذا القول المهدوي .
( وما ظلمهم الله ) جوز وغيره أن يعود الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأن لم تقبل نفقاتهم ، وأن يعود على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي . وقال الزمخشري ابن عطية : الضمير في " ظلمهم " للكفار الذين تقدم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ؛ لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم ، ولا لتبين ظلمهم . وأيضا قوله : ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . يدل على فعل الحال في حاضرين . انتهى . وهو ترجيح حسن . وقرئ شاذا : " ولكن " ، بالتشديد ، واسمها " أنفسهم " ، والخبر يظلمون . والمعنى : يظلمونها هم . وحسن حذف هذا الضمير - وإن كان الحذف في مثله قليلا - كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرح به لزال هذا المعنى . ولا يجوز أن يعتقد أن اسم " لكن " ضمير الشأن وحذف ، وأنفسهم مفعول بـ " يظلمون " ؛ لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ) نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من يهود للجوار والحلف والرضاع ، قاله . وقال أيضا هو ابن عباس وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين . نهى الله المؤمنين عنهم ، شبه الصديق الصدق بما يباشر بطن الإنسان من ثوبه . يقال له : بطانة ووليجة . وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدره : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون . وقيل : يتعلق " من " بقوله : " لا تتخذوا " . وقيل : " من " زائدة ، أي بطانة دونكم . والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين . ودل هذا النهي على المنع من استكتاب الزمخشري أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم . وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذميا ، وتلا عليه هذه الآية . وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك ؟ فقال : إذن أتخذ بطانة .
والجملة من قوله : ( لا يألونكم خبالا ) لا موضع لها من الإعراب ؛ إذ جاءت بيانا لحال البطانة الكافرة هي والجمل التي بعدها ؛ لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة . ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به " من " فبعيد عن فهم الكلام الفصيح ؛ لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم . والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما ، و " ألا " متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر ، أي ما قصرت فيه . وقيل : انتصب " خبالا " على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : ( وفجرنا الأرض عيونا ) التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم . فكان أصل هذا المفعول حرف الجر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم . وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال . [ ص: 39 ] قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط " في " . وقال : يقال : ألا في الأمر يألو ، إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه . انتهى . الزمخشري
( ودوا ما عنتم ) قال : ودوا إضلالكم . وقال ابن جرير : مشقتكم . وقال الزجاج الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرى مع الممانعة المشقة . انتهى . ويقال : عنت - بكسر النون - وأصله انهياض العظم بعد جبره . و " ما " في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها . وجوزوا أن يكون نعتا لبطانة ، وحالا من الضمير في يألونكم ، و ( قد ) معه مرادة .
( قد بدت البغضاء من أفواههم ) وقرأ عبد الله : " قد " بدا " ؛ لأن الفاعل مؤنث مجازا أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم . وذكر الأفواه دون الألسنة ؛ إشعارا بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم ، إذا تشدق بها . وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . انتهى .
ولما ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن . ثم ذكر أن ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم ، فقال :
( وما تخفي صدورهم أكبر ) أي أكثر مما ظهر منها . والظاهر أن بدو البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي أظهروا للمؤمنين البغض . وقالقتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك . وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر . وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازا ؛ إذ هي محال القلوب التي تخفى كما قال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
( قد بينا لكم الآيات ) أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار .
( إن كنتم تعقلون ) أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إن كنتم عقلاء ، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهز للنفوس كقولك : إن كنت رجلا فافعل كذا . وقال : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه . وقيل : إن كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء . وقيل : معنى " إن " معنى " إذ " ، أي إذ كنتم عقلاء . ابن جرير
( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) تقدم لنا الكلام على نظيرها " أنتم أولاء " في قوله : ( ها أنتم هؤلاء حاججتم ) قراءة وإعرابا . وتلخيصه هنا أن يكون أولاء خبرا عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون " أولاء " موصولا أو خبرا لـ " أنتم " و " أولاء " منادى ، أو يكون " أولاء " مبتدأ ثانيا ، و " تحبونهم " خبرا عنه ، والجملة خبر عن الأول . أو يكون " أولاء " في موضع نصب نحو : أنا زيدا ضربته ، فيكون من الاشتغال . واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ؛ لأن أنتم خطاب للمؤمنين ، و " أولاء " إشارة إلى الكافرين . وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد . [ ص: 40 ] وهو : المؤمنون . وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصف تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين ، إذ تحبونهم ولا يحبونكم . بيان لخطئهم في موالاتهم ، حيث يبذلون المحبة لمن يبغضهم ، وضمير المفعول في تحبونهم قالوا : لمنافقي اليهود . وفي : لمنافقي الزمخشري أهل الكتاب . والذي يظهر أنه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى منافق المشركين .
والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف ، قاله . أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين ، قاله ابن عباس أبو العالية . أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي ، قاله قتادة . أو إرادة الإسلام لهم ، قاله المفضل . وهذا ليس بجيد ؛ لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر أو المصافاة ؛ لأنها من ثمرة المحبة . والزجاج