فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيرا في عراض المواكب
يريد : فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بـ " نهاية التأميل في أسرار التنزيل " : قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف : يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : ( وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ) تقديره : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف " فيقال " ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جوابا له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفا يقتضي جوابا له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ، ثم يجعلون لهما جوابا واحدا ، كما في قوله تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، جواب للشرطين ، وليس " أفلم " جواب " أما " ، بل الفاء عاطفة على مقدر ، والتقدير : [ ص: 24 ] أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ؛ لأنه ما من نحوي إلا خرج الآية على إضمار ، فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأما ما اعترض به من قوله : ( وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي ) وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف " فيقال " ولم تحذف الفاء - فدل على بطلان هذا التقدير ، فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في " أفلم " ليست فاء " فيقال " التي هي جواب " أما " حتى يقال : حذف " فيقال " وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب " أما " ، و " يقال " بعدها محذوف . وفاء " أفلم " تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر :
يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد : يكبر ، وقول الآخر :
لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها يتذبذب
أراني إذا ما بت بت على هوى فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا
( وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) انظر تفاوت ما بين التقسيمين ، هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة ، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود ، لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى . وقال : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر ؛ إشعارا بأن جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ، ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : ( ابن عباس فذوقوا العذاب ) ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف . وأصل افعل هذا افعلل ، يدل على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، وأعوز . وأن لا يكون من مضعف كأحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأن لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقض الحائط ، وابهار الليل ، واشعار الرجل بفرق شعره ، وشذ ارعوى ؛ لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعا لرعوته بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى : ( مدهامتان ) ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى : تزور عن كهفهم : واحمر خجلا . وجواب " أما " ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة . " وهم فيها خالدون " جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده . دلت على أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال : ( فإن قلت ) كيف موقع قوله : " الزمخشري هم فيها خالدون " بعد قوله : ففي رحمة الله ؟ ( قلت ) موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون . انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب " أما " ففي الجنة هم فيها خالدون ، و " هم فيها خالدون " ابتداء وخبر . وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم .