" من " في : من شاطئ لابتداء الغاية ، و " من الشجرة " كذلك ، إذ هي بدل من الأولى ، أي من قبل الشجرة . و " الأيمن " : يحتمل أن يكون صفة للشاطئ وللوادي ، على معنى اليمن والبركة ، أو الأيمن : يريد المعادل للعضو الأيسر ، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى ، لا للشاطئ ، ولا للوادي ، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي ، أو بعكس ذلك ؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول . وقرأ الأشهب العقيلي ، ومسلمة : " في البقعة " ، بفتح الباء . قال أبو زيد : سمعت من العرب : هذه بقعة طيبة ، بفتح الباء ، ووصفت البقعة بالبركة ، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى - عليه السلام - أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة . ويتعلق في البقعة بـ " نودي " ، أو تكون في موضع الحال من " شاطئ " . والشجرة عناب ، أو عليق ، أو سمرة ، أو عوسج ، أقوال . و " أن " يحتمل أن تكون حرف تفسير ، وأن تكون مخففة من الثقيلة . [ ص: 117 ] وقرأت فرقة : " أني أنا " بفتح الهمزة ، وفي إعرابه إشكال ؛ لأن " إن " إن كانت تفسيرية ، فينبغي كسر " إني " ، وإن كانت مصدرية ، تتقدر بالمفرد ، والمفرد لا يكون خبرا الضمير الشأن ، فتخريج هذه القراءة على أن تكون " إن " تفسيرية ، وإني معمول لمضمر تقديره : إني يا موسى أعلم إني أنا الله .
وجاء في طه : ( نودي يا موسى إني أنا ربك ) وفي النمل : ( نودي أن بورك من في النار ) وهنا : ( نودي من شاطئ ) ولا منافاة ، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء . والجمهور : على أنه - تعالى - كلمه في هذا المقام من غير واسطة . وقال الحسن : ناداه نداء الوحي ، لا نداء الكلام . وتقدم الكلام على نظير قوله : ( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ) ثم أمره فقال : ( اسلك يدك في جيبك ) وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس ، وكان كم الجبة في غاية الضيق . وتقدم الكلام على : ( تخرج بيضاء من غير سوء ) وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف ، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ ، وبجيب مدرعته . والرهب : الخوف ، وتأتي القراءات فيه . وقيل : بفتح الراء والهاء : الكم ، بلغة بني حنيفة وحمير ، وسمع قائلا يقول : أعطني ما في رهبك ، أي في كمك ، والظاهر حمل : ( الأصمعي واضمم إليك جناحك من الرهب ) على الحقيقة .
قال : خاف الثوري موسى أن يكون حدث به سوء ، فأمره - تعالى - أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى ، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءا بل آية من الله . وقال مجاهد ، وابن زيد : أمره بضم عضده وذراعه ، وهو الجناح ، إلى جنبه ، ليخف بذلك فزعه . ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه . وقيل : لما انقلبت العصا حية ، فزع موسى واضطرب ، فاتقاها بيده ، كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى ، وهذا القول بسطه ؛ لأنه كالتكرار لقوله : ( الزمخشري اسلك يدك في جيبك ) . وقد قال هو : والجناح هنا اليد ، قال : لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه . وقيل : المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها ، فاضممها إليك تسكن . وقالت فرقة : هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به ، كما تقول العرب : اشدد حيازيمك واربط جأشك ، أي شمر في أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن ، قاله أبو علي ، وكأنه طيره الفزع ، وآلة الطيران الجناح . فقيل له : اسكن ولا تخف ، وضم منشور جناحك من الخوف إليك ، وذكر هذا القول ، فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران . ومعنى ( الزمخشري من الرهب ) من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية ، فاضمم إليك جناحك . جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : ( واضمم إليك جناحك ) وقوله : ( اسلك يدك في جيبك ) على أحد التفسيرين واحد ، ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب . ( فإن قلت ) : قد جعل الجناح ، وهو اليد ، في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه ، وذلك قوله : ( واضمم إليك جناحك ) ( واضمم يدك إلى جناحك ) فما التوفيق بينهما ؟ ( قلت ) : المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح . ومن بدع التفاسير أن الرهب : الكم ، بلغة حمير ، وأنهم يقولون : أعطني ما في رهبك ؛ وليت شعري ؛ كيف صحته في اللغة ؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضى عربيتهم ؟ ثم ليت شعري : كيف موقعه في الآية ؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات [ ص: 118 ] التنزيل ؟ على أن موسى - صلوات الله عليه - ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف ، لا كمين لها . انتهى . أما قوله : وهل سمع من الأثبات ؟ وهذا مروي عن ، وهو ثقة ثبت . وأما قوله : كيف موقعه من الآية ؟ فقالوا : معناه أخرج يدك من كمك ، وكان قد أخذ العصا بالكم . وقرأ الأصمعي الحرميان ، وأبو عمرو : من الرهب ، بفتح الراء والهاء ؛ وحفص : بفتح الراء وسكون الهاء ؛ وباقي السبعة : بضم الراء وإسكان الهاء . وقرأ قتادة ، والحسن ، وعيسى ، والجحدري : بضمهما .
( فذانك ) إشارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، ولكن ذكرا لتذكير الخبر ، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر ، كقراءة من قرأ : " : ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا " بالياء في " تكن " . ( برهانان ) حجتان نيرتان . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " فذانك " ، بتشديد النون ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . وقرأ ، ابن مسعود وعيسى ، وأبو نوفل ، وابن هرمز ، وشبل : فذانيك ، بياء بعد النون المكسورة ، وهي لغة هذيل . وقيل : بل لغة تميم ، ورواها شبل عن ابن كثير ، وعنه أيضا : فذانيك ، بفتح النون قبل الياء ، على لغة من فتح نون التثنية ، نحو قوله :
على أحوذيين استقلت عشية
وقرأ : بتشديد النون مكسورة بعدها ياء . قيل : وهي لغة ابن مسعود هذيل . وقال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها . و ( فرعون إلى ) يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره : اذهب إلى فرعون . ( قال رب إني قتلت منهم نفسا ) هو القبطي الذي وكزه فمات ، فطلب من ربه ما يزداد به قوة ، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ . و ( أفصح ) يدل على أن فيه فصاحة ، ولكن أخوه أفصح . ( فأرسله معي ردءا ) أي معينا يصدقني ، ليس المعنى أنه يقول لي : صدقت ، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح ، وإنما المعنى : أنه لزيادة فصاحته يبالغ في التبيان ، وفي الإجابة عن الشبهات ، وفي جداله الكفار . وقرأ الجمهور : ردءا ، بالهمزة ؛ وأبو جعفر ، ونافع ، والمدنيان : بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال ؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل ، ولا همز ولا تنوين ، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف . وقرأ عاصم ، وحمزة : يصدقني ، بضم القاف ، فاحتمل الصفة لـ " ردءا " ، والحال احتمل الاستئناف وقرأ باقي السبعة : بالإسكان . وقرأ أبي ، : يصدقوني ، والضمير وزيد بن علي لفرعون وقومه . قال ابن خالويه : هذا شاهد لمن جزم ، لأنه لو كان رفعا لقال : يصدقونني . انتهى ، والجزم على جواب الأمر . والمعنى في يصدقوني : أرجو تصديقهم إياي ، فأجابه - تعالى - إلى طلبته وقال : ( سنشد عضدك بأخيك ) . وقرأ ، زيد بن علي والحسن : عضدك ، بضمتين . وعن الحسن : بضم العين وإسكان الضاد . وعن بعضهم : بفتح العين وكسر الضاد ؛ وفتحهما ، قرأ به عيسى ، ويقال فيه : عضد ، بفتح العين وسكون الضاد ، ولا أعلم أحدا قرأ به . والعضد : العضو المعروف ، وهي قوام اليد ، وبشدتها يشتد . قال الشاعر :
أبني لبينى لستما بيد إلا يدا ليست لها عضد
والمعنى فيه : سنقويك بأخيك . ويقال في الخير : شد الله عضدك ، وفي الشر : فت الله في عضدك . والسلطان : الحجة والغلبة والتسليط . ( فلا يصلون إليكما ) أي بسوء ، أو إلى إذايتكما . ويحتمل ( بآياتنا ) أن يتعلق بقوله : " ونجعل " ، أو بـ " يصلون " ، أو بـ " الغالبون " ، وإن كان موصولا على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل ، وإن كان عنده موصولا على سبيل الاتساع ، أو بفعل محذوف ، أي اذهبا بآياتنا . كما علق " في تسع آيات " بـ " اذهب " ، أو على البيان ، فالعامل محذوف ، وهذه أعاريب منقولة . وقال : ويجوز أن يكون قسما جوابه ( الزمخشري فلا يصلون ) مقدما عليه ، أو من لغو القسم . انتهى . أما إنه قسم جوابه ( فلا يصلون ) فإنه لا يستقيم على قول الجمهور ؛ لأن جواب القسم لا تدخله الفاء . وأما قوله : أو من [ ص: 119 ] لغو القسم ، فكأنه يريد والله أعلم . إنه لم يذكر له جواب ، بل حذف للدلالة عليه ، أي بآياتنا لتغلبن .