لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر تعالى ما فيه ، وتذكير لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم ، فناسب أن ذكر أولا من نزل عليه كتابه جملة واحدة ، ومع ذلك كفروا وكذبوا به ، فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين موسى .
والكتاب هنا التوراة ، و ( هارون ) بدل أو عطف بيان ، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا . وأن يكون ( وزيرا ) ، والوزارة لا تنافي النبوة ; فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يؤازر بعضهم بعضا ، والمذهوب إليهم القبط وفرعون . وفي الكلام حذف ، أي : فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما ، ( فدمرناهم ) ، والتدمير أشد الإهلاك ، وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه . وقصة موسى ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع ، وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها ; لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم .
وقرأ علي ، والحسن ومسلمة بن محارب : ( فدمراهم ) ، على الأمر لموسى وهارون ، وعن علي أيضا كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة . وعنه أيضا ( فدمرا ) أمرا لهما ( بهم ) بباء الجر ، ومعنى الأمر كونا سبب تدميرهم .
وانتصب ( وقوم نوح ) على الاشتغال ، وكان النصب أرجح لتقدم الجمل الفعلية قبل ذلك ، ويكون ( لما ) في هذا الإعراب ظرفا على مذهب الفارسي . وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن ( أغرقناهم ) جواب ( لما ) فلا يفسر ناصبا لـ ( قوم ) فيكون معطوفا على المفعول في ( فدمرناهم ) ، أو منصوبا على مضمر تقديره اذكر . وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي .
( لما كذبوا الرسل ) كذبوا نوحا ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيبا للجميع ، أو لم يروا بعثة الرسل كالبراهمة ، والظاهر عطف ( وعادا ) على ( وقوم ) . وقال أبو إسحاق : يكون معطوفا على الهاء والميم في ( وجعلناهم للناس آية ) . قال : ويجوز أن يكون معطوفا على ( الظالمين ) ; لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا ( عادا وثمود ) ، وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى ( وثمود ) غير مصروف . ( وأصحاب الرس ) . قال : هم ابن عباس قوم ثمود ، ويبعده عطفه على ثمود ; لأن العطف يقتضي التغاير . وقال قتادة : أهل قرية من اليمامة يقال لها : [ ص: 499 ] الرس ، والفلج . قيل : قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح . وقال كعب ومقاتل والسدي : بئر بأنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار . وقيل : قتلوا نبيهم ورسوه في بئر ، أي : دسوه فيه .
وقال وهب والكلبي : أصحاب الرس وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما ، شعيب أرسل إلى أصحاب الرس ، وكانوا قوما من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش ، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه ، فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية . وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم . وقال علي فيما نقله الثعلبي : قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال : لها شاه درخت ، رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل . وقيل : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان - صلى الله عليه وسلم - كانوا مبتلين بالعنقاء ، وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج ، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا . وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود . وقال : ابن عباس الرس بئر أذربيجان . وقيل : الرس ما بين نجران إلى اليمن إلى حضرموت . وقيل : قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر . وقيل : قوم بعث إليهم نبي فأكلوه . وقيل : قوم نساؤهم سواحق . وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد . وقيل : الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبيا من أولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه ، فلبث فيهم زمانا فشكا إلى الله منهم ، فحفروا له بئرا وأرسلوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم ، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأظلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص .
وروى عكرمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن ومحمد بن كعب القرظي أهل الرس أخذوا نبيهم فرسوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة ، فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلعها فيعطيه ما يغذيه به . ثم يرد الصخرة ، إلى أن ضرب الله يوما على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة ، وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به " . في حديث طويل . قال : فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية ، وكثر الاختلاف في الطبري أصحاب الرس ، فلو صح ما نقله عكرمة كان هو القول الذي لا يمكن خلافه ( وملخص هذه الأقوال ) أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم . ومحمد بن كعب
( وقرونا بين ذلك ) هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله ، و ( ذلك ) إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر ; فلذلك حسن دخول ( بين ) عليه من غير أن يعطف عليه شيء ، كأنه قيل بين المذكورين ، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة . ثم يشير إليها . وانتصب ( كلا ) الأول على الاشتغال ، أي : وأنذرنا كلا أو حذرنا كلا ، والثاني على أنه مفعول بتبرنا ; لأنه لم يأخذ مفعولا ، وهذا من واضح الإعراب . ومعنى ضرب الأمثال ، أي : بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا ، وأبعد من جعل الضمير في ( له ) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و ( كلا ) منصوب بضربنا ، و ( الأمثال ) بدل من ( كلا ) ، والضمير في ( ولقد أتوا ) لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى الشام ، وكانت قرى خمسة ، أهلك الله منها أربعا وبقيت واحدة ، وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل ; قاله : و ( مطر السوء ) الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا . وكان ابن عباس إبراهيم - عليه السلام - ينادي نصيحة لكم : يا سدوم ، يوم لكم من الله - عز وجل - أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله ، ومعنى ( أتوا ) مروا فلذلك عداه بعلى . وأفرد لفظ القرية وإن كانت قرى ; لأن سدوم هي أم تلك [ ص: 500 ] القرى وأعظمها . وقال : الضمير في أتوا عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجورا . انتهى ، وهم مكي قريش ، وانتصب ( مطر ) على أنه مفعول ثان لأمطرت ، على معنى أوليت ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد ، أي : إمطار السوء . ( أفلم يكونوا يرونها ) أي : ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال : ( وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل ) ، وقال : ( وإنهما لبإمام مبين ) ، وهو استفهام معناه التعجب ، ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك ، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة ، وضع الرجاء موضع التوقع ; لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن ، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون ( نشورا ) كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم ، أو لا يخافون على اللغة التهامية . وقرأ " مطرت " ثلاثيا مبنيا للمفعول ، ومطر متعد . قال الشاعر : زيد بن علي
كمن بواديه بعد المحل ممطور
وقرأ أبو السماك : ( مطر السوء ) بضم السين . ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا ) ، لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وترك الإيمان به ، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار . حتى يقول بعضهم لبعض : ( أهذا الذى بعث الله رسولا ) ، و ( إن ) نافية جواب ( إذا ) ، وانفردت ( إذا ) بأنه إذا كان جوابها منفيا بما أو بلا لا تدخله الفاء ، بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع ، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية ، ومعنى ( هزؤا ) موضع هزء أو مهزوا به ، ( أهذا ) قبله قول محذوف ، أي : يقولون ، وقال : جواب ( إذا ) ما أضمر من القول ، أي : ( وإذا رأوك ) قالوا : ( أهذا الذى بعث الله رسولا ) ، و ( إن يتخذونك ) جملة اعتراضية بين ( إذا ) وجوابها . قيل : ونزلت في أبي جهل ; كان إذا رأى الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال : ( أهذا الذى بعث الله رسولا ) ؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيما لقبح صنعه أو لكون جماعة معه قالوا ذلك ، والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة ، وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم : بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار ، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء ، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا . وقولهم : ( إن كاد ليضلنا ) دليل على فرط مجاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم ، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات ، حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم . و ( لولا ) في مثل هذا الكلام جار - من حيث المعنى لا من حيث اللفظ - مجرى التقييد للحكم المطلق ; قاله . وقال الزمخشري أبو عبد الله الرازي : الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة ، أو بالصفة فلا يمكن ; لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم ، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم لوقاحتهم قلبوا القصة واستهزءوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - انتهى . قيل : وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته - عليه الصلاة والسلام - عليهم كالمجانين استهزءوا به أولا ، ثم إنهم وصفوه بأنه ( كاد ليضلنا ) عن مذهبنا ( لولا ) أنا قابلناه بالجمود والإصرار ، فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل ، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيدودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره ، تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل . ( وسوف يعلمون ) وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال ، فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير ، ولما قالوا ( إن كاد ليضلنا ) جاء قوله : ( من أضل سبيلا ) أي : سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه . والظاهر أن ( من ) استفهامية ، و ( أضل ) خبره ، والجملة في موضع مفعول ( يعلمون ) إن كانت [ ص: 501 ] متعدية إلى واحد ، أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين ، ويجوز أن تكون ( من ) موصولة مفعولة بيعلمون ، و ( أضل ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أضل ، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب : ما أنا بالذي قائل لك سواء . ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه - عليه السلام - أن لا يتأسف عليهم ، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ، ثم ذكر أنهم ( أضل سبيلا ) من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله . والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح . و ( أرأيت ) استفهام تعجب من جهل من هذه حاله ، و ( إلهه ) المفعول الأول لاتخذ ، و ( هواه ) الثاني ، أي : أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو جار على ما يكون في ( هواه ) ، والمعنى أنه لم يتخذ إلها إلا هواه ، وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه ، والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه ، كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن . قيل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي ، كان إذا هوي شيئا عبده ، والهوى ميل القلب إلى الشيء ( أفأنت ) تجبره على ترك هواه ، أو ( أفأنت ) تحفظه من عظيم جهله . وقرأ بعض أهل المدينة " من اتخذ آلهة " منونة على الجمع ، وفيه تقديم جعل هواه أنواعا أسماء لأجناس مختلفة ، فجعل كل جنس من هواه إلها آخر . وقرأ ابن هرمز : ( إلاهة ) على وزن فعالة ، وفيه أيضا تقديم أي : هواه إلاهة ، بمعنى معبود ; لأنها بمعنى المألوهة . فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت . وقيل : بل الإلاهة الشمس ، ويقال لها ألاهة بضم الهمزة ، وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث ، لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت ; فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت ; قاله صاحب اللوامح . ومفعول ( أرأيت ) الأول هو ( من ) ، والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . وتقدم الكلام في ( أرأيت ) في أوائل الأنعام ، ومعنى ( وكيلا ) أي : هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام . و ( أم ) منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المذهب الصحيح ، كأنه قال : بل أتحسب كأن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها ، وهو كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ; لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ، ونفي ذلك عن أكثرهم ; لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم ، وجعلوا أضل من الأنعام ; لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب منفعتها وتتجنب مضرتها ، وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها ، وهم لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، ولا يرغبون في الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ، ولا يهتدون للحق .