( إلا الذين تابوا ) هذا الاستثناء يعقب جملا ثلاثة ، جملة الأمر بالجلد ، وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف ، وجملة النهي [ ص: 433 ] عن قبول شهادتهم أبدا ، وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي ، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة ، وهي الثالثة ، وهي الحكم بفسقهم ، والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه ، وفيها خلاف وتفصيل ، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك ، فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة ، وهوالذي نختاره ، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل . وقال : وجعل - يعني الزمخشري - الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية ، وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من ( هم ) في ( لهم ) ، وحقه عند الشافعي أبي حنيفة النصب ; لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط ، يعني الموصول المضمن معنى الشرط ، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه ، أي اجمعوا له الحد والرد والفسق .
( إلا الذين تابوا ) عن القذف ، ( وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين ، انتهى . وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهوالرجوع إلى الجملة التي تليها ، والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلا عند الحاجة .
ولما ذكر تعالى قذف المحصنات ، وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ; ولذلك قال : يا رسول الله ، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء ، فنزلت : ( سعد بن عبادة والذين يرمون أزواجهم ) ، واتضح أن المراد بقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) غير الزوجات ، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر . وقيل : نازلة عويمر قبل ، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ، ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات ، والمعنى ( شهداء ) على صدق قولهم . وقرئ " ولم تكن " بالتاء . وقرأ الجمهور بالياء ، وهوالفصيح ; لأنه إذا كان العامل مفرغا لما بعد إلا وهو مؤنث ، فالفصيح أن يقول : ما قام إلا هند ، وأما ما قامت إلا هند ، فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة ، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة .
و ( أزواجهم ) يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأحد معنيين أحدهما : أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبيا ، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حراما في غير ملك . والثاني : أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا ، فأما إذا كان أعمى أو فاسقا فله أن يلاعن . وقال الثوري : لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا ، ويلاعن المحدود في القذف . وقال والحسن بن صالح : لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته . وقال الليث : يلاعن العبد امرأته الحرة ، والمحدود في القذف . وعن الأوزاعي مالك : الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم ، والعبد يلاعن زوجته الكتابية ، وعنه : ، فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر ، ليس بين المسلم والكافرة لعان إلا لمن يقول : رأيتها تزني إلا في نفي الحمل ويتلاعن المملوكان المسلمان لا الكافران . وقال ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة [ ص: 434 ] كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن ، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا ، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا ، سواء قال : عاينتها تزني ، أم قال : زنيت ، وهو قول الشافعي أبي حنيفة وأصحابه ، وكان مالك لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزنين ، أو ينفي حملا بها أو ولدا منها ، والأعمى يلاعن . وقال الليث : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيت عليها رجلا أو يكون استبرأها ، فيقول : ليس هذا الحمل مني ، ولم تتعرض الآية في اللعان إلا لكيفيته من الزوجين . وقد أطال المفسرون : الزمخشري وابن عطية وغيرهما ; في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه .
وقرأ الجمهور ( أربع شهادات ) بالنصب على المصدر . وارتفع ( فشهادة ) خبرا على إضمار مبتدأ ، أي فالحكم أو الواجب ، أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدما ، أي فعليه أن يشهد ، أو مؤخرا ، أي كافيه أو واجبه . و ( بالله ) من صلة ( شهادات ) ، ويجوز أن يكون من صلة ( فشهادة ) ; قاله ابن عطية ، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال ، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات ، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله : ( فشهادة ) . وقرأ الأخوان ، وحفص ، والحسن ، وقتادة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، وأبو حيوة ، ، وابن أبي عبلة ، وأبو بحرية وأبان ، : ( أربع ) بالرفع خبرا للمبتدأ ، وهو ( وابن سعدان فشهادة ) و ( بالله ) من صلة ( شهادات ) على هذه القراءة ، ولا يجوز أن يتعلق بـ ( فشهادة ) للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ، ولا يجوز ذلك .
وقرأ الجمهور : ( والخامسة ) بالرفع فيهما . وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن إياس - ويقال ابن إلياس - : بالنصب فيهما . وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى ، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر ، ومن نصب الأولى فعطف على ( أربع ) في قراءة من نصب ( أربع ) ، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع ( أربع ) ، أي : وتشهد ( الخامسة ) ، ومن نصب الثانية فعطف على ( أربع ) ، وعلى قراءة النصب في ( الخامسة ) يكون ( أن ) بعده على إسقاط حرف الجر ، أي بأن ، وجوز أن يكون ( أن ) وما بعده بدلا من ( الخامسة ) . وقرأ نافع ( أن لعنة ) بتخفيف ( أن ) ورفع ( لعنة ) ، و ( أن غضب ) بتخفيف ( أن ) ، و ( غضب ) فعل ماض ، والجلالة بعد مرفوعة ، وهي أن المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن . وقرأ أبو رجاء و قتادة و عيسى و سلام وعمرو بن ميمون والأعرج و يعقوب ، بخلاف عنهما ، والحسن ( أن لعنة ) كقراءة نافع ، و ( أن غضب ) بتخفيف ( أن ) ، و ( غضب ) مصدر مرفوع وخبره ما بعده ، وهي أن المخففة من الثقيلة . وقرأ باقي السبعة ( أن لعنة الله ) و ( أن غضب الله ) بتشديد ( أن ) ، ونصب ما بعدهما اسما لها وخبره ما بعده . قال ابن عطية : وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله : ( أن غضب ) قد وليها الفعل .
قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله : ( علم أن سيكون ) ، وقوله : ( أفلا يرون أن لا يرجع ) ، وأما قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال . وأما قوله ( أن بورك من في النار ) فبورك على معنى الدعاء ، فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى ، انتهى . ولا فرق بين ( أن غضب الله ) و ( أن بورك ) في كون الفعل بعد أن دعاء ، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي ، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء ، وأورد ابن عطية ( أن غضب ) في قراءة نافع مورد المستغرب .
( ويدرأ عنها العذاب ) أي : يدفع و ( العذاب ) قال الجمهور : الحد . وقال أصحاب الرأي : لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج . وحكى عن آخرين أن ( العذاب ) هوالحبس ، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية ، وبه قال الطبري الليث ، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقا وفي شهادتها في قوله عليها تقول علي . فقال الثوري و أبو حنيفة و محمد و أبو يوسف : يقول بعد [ ص: 435 ] ( من الصادقين ) فيما رماها به من الزنا وكذا بعد ( من الكاذبين ) ، وكذا هي بعد ( من الكاذبين ) و ( من الصادقين ) ، فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد . وقال مالك : يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني ، وهي أشهد بالله ما رآني أزني ، والخامسة تقول ذلك أربعا ، و ( الخامسة ) لفظ الآية .
وقال : يقول الشافعي ، ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي ، أمر من يضع يده على فيه ، ويقول : إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفى ولدها زاد وأن هذا الولد ما هو مني ، والظاهر أنه إذا طلقها بائنا فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة ، فنفى الولد أنه يحد ويلحقه الولد ; لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلا مجازا . وعن أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان : إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حد . وعن ابن عباس : يلاعن . وعن ابن عمر الليث : إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن . وعن والشافعي مالك : إن أنكره بعد الثلاث لاعنها . ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره ، فقال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه : لا حد ولا لعان . وقال الأوزاعي والليث : يلاعن ، وهذا هوالظاهر ; لأنها كانت زوجته حالة القذف ، والظاهر من قوله : ( والشافعي فشهادة أحدهم ) أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن ، وكذلك هي ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
وقال مالك والحسن بن صالح والليث : أيهما نكل حد هو للقذف وهي للزنا . وعن والشافعي الحسن : إذا لاعن وأبت حبست . وعن مكحول والضحاك : ترجم ، والشعبي ، خلافا ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما للخوارج في قولهم : إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب . قال : ( فإن قلت ) : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله ؟ ( قلت ) : تغليظا عليها ; لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها ، ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد ، ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لخويلة : " الزمخشري والرجم أهون عليك من غضب الله " .
( ولولا فضل الله ) إلى آخره . قال فضله منته ورحمته نعمته . وقال السدي ابن سلام : فضله الإسلام ، ورحمته الكتمان . ولما بين تعالى حكم الرامي المحصنات والأزواج ، كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلا إلى الستر وإلى درء الحد ، وجواب ( لولا ) محذوف . قال التبريزي : تقديره لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب . وقال ابن عطية : لكشف الزناة بأيسر من هذا ، أو لأخذهم بعقاب من عنده ، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب .