[ ص: 400 ] لما ذكر - تعالى - ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه ، و ( سبع طرائق ) السماوات ، قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض ، طارق النعل جعله على نعل ، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر ; قاله الخليل والفراء كقوله : ( والزجاج طباقا ) . وقيل : لأنها طرائق الملائكة في العروج . وقيل : لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها . وقيل : لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى . قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء .
( وما كنا عن الخلق غافلين ) نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه ، وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السماوات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم ، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء ( بقدر ) بتقدير منا ( معلوم ) لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم . ( فأسكناه في الأرض ) أي جعلنا مقره في الأرض . وعن : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل . وفي قوله ( ابن عباس فأسكناه في الأرض ) دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار ، وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه . قال : ( الزمخشري على ذهاب به ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه ، انتهى . و ( ذهاب ) مصدر ذهب ، والباء في ( به ) للتعدية مرادفة للهمزة كقوله : ( لذهب بسمعهم ) أي لأذهب سمعهم . وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله : ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) ، وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء . قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضا فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ، انتهى . وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ، ولو كان باقيا على حاله ما انتفع به من ملوحته .
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال : ( فأنشأنا لكم به جنات ) وخص هذه الأنواع الثلاثة من : النخل والعنب ، والزيتون ; لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ، ووصف النخل والعنب بقوله : ( لكم فيها ) إلى آخره ; لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وعنبا وتمرا وزبيبا ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا ، ويحتمل أن يكون قوله : ( ومنها تأكلون ) من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه . كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون ; قاله الزمخشري . وقال : وذكر النخيل والأعناب ; لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما ، والضمير في ( ولكم فيها ) عائد على الجنات ، وهو أعم لسائر الثمرات ، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب . الطبري
وعطف ( وشجرة ) على " جنات " ، وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام . وقال الجمهور ( سيناء ) اسم الجبل ، كما تقول : جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص . وقال مجاهد : معنى ( سيناء ) مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن ، والقولان عن . وقيل ابن عباس الحسن بالحبشة . وقيل : بالنبطية . وقال معمر عن فرقة : معناه ذو شجر . وقيل : ( سيناء ) اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده ; قاله مجاهد أيضا . وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين ، وهي لغة [ ص: 401 ] لبني كنانة . وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح ، وهي لغة سائر العرب . وقرأ سينى مقصورا وبفتح السين ، والأصح أن ( سيناء ) اسم بقعة وأنه ليس مشتقا من السناء ; لاختلاف المادتين ، على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع ; لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء .
وقرأ الجمهور : ( تنبت ) بفتح التاء وضم الباء ، والباء في ( بالدهن ) على هذا باء الحال ، أي ( تنبت ) مصحوبة ( بالدهن ) أي ومعها الدهن . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، و سلام ، و سهل ، و رويس ، و الجحدري ، بضم التاء وكسر الباء ، فقيل : ( بالدهن ) مفعول ، والباء زائدة ، التقدير تنبت الدهن . وقيل : المفعول محذوف أي ( تنبت ) جناها ، و ( بالدهن ) في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن . وقيل : أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال ، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير :
قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
بلفظ أنبت . وقرأ الحسن ، ، والزهري وابن هرمز ، بضم التاء وفتح الباء مبنيا للمفعول ، و ( بالدهن ) حال . وقرأ بضم التاء وكسر الباء الدهن ، بالنصب . وقرأ زر بن حبيش سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان ، بالألف ، وما رووا من قراءة عبد الله " يخرج الدهن " ، وقراءة أبي " تثمر بالدهن " محمول على التفسير ; لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ; ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور ، والصبغ الغمس والائتدام .
وقال مقاتل : الصبغ الزيتون ، والدهن الزيت ، جعل تعالى في هذه الشجرة تأدما ودهنا . وقال الكرماني : القياس أن يكون الصبغ غير الدهن ; لأن المعطوف غير المعطوف عليه . وقرأ وصبغا بالنصب . وقرأ الأعمش عامر بن عبد الله وصباغ بالألف ، فالنصب عطف على موضع ( بالدهن ) كان في موضع الحال أو في موضع المفعول ، والصباغ كالدبغ والدباغ ، وفي كتاب ابن عطية . وقرأ ومتاعا ( عامر بن عبد قيس للآكلين ) كأنه يريد تفسير الصبغ .
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة ، وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى - عليه السلام - ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله : ( من شجرة مباركة زيتونة ) ، قيل : وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل . ( ولكم فيها منافع ) من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل ، وأدرج باقي المنافع في قوله : ( ولكم فيها منافع كثيرة ) ، ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام ، وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك ; لأنها سفائن البر كما أن ( الفلك ) سفائن البحر . قال : ذو الرمة
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد صيدح ناقته .