[ ص: 212 ] ( فليمدد ) يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء ، وكان المعنى : الأضل منا ومنكم مد الله له ، أي : أملى له حتى يئول إلى عذابه . وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل ، ويحتمل أن يكون خبرا في المعنى وصورته صورة الأمر ، كأنه يقول : من كان ضالا من الأمم فعادة الله له أنه يمدد له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة . وقال : أخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك ، وإنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة ( الزمخشري أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ) أو كقوله ( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) والظاهر أن ( حتى ) غاية لقوله ( فليمدد ) والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم فيها إلى أن يعاينوا العذاب بنصرة الله المؤمنين أو الساعة ومقدماتها .
وقال : في هذه الآية وجهان أحدهما أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما ، أي : قالوا ( الزمخشري أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) ( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) ، أي : لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين ( إما العذاب ) في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم ، وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا ، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال ؛ فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه ، وأنهم ( شر مكانا وأضعف جندا ) لا ( خير مقاما وأحسن نديا ) وأن المؤمنين على خلاف صفتهم . انتهى هذا الوجه وهو في غاية البعد لطول الفصل بين قوله قالوا : ( أي الفريقين ) وبين الغاية وفيه الفصل بجملتي اعتراض ولا يجيز ذلك أبو علي .
قال : والثاني أن يتصل بما يليها فذكر نحوا مما قدمناه ، وقابل قولهم ( الزمخشري خير مقاما ) بقوله ( شر مكانا ) وقولهم ( وأحسن نديا ) بقوله ( وأضعف جندا ) ؛ لأن الندي هو المجلس الجامع لوجوه القوم والأعوان والأنصار ، والجند هم الأعوان والأنصار ، و ( إما العذاب وإما الساعة ) بدل من ( ما ) المفعولة بـ ( رأوا ) . و ( من ) موصولة مفعولة بقوله ( فسيعلمون ) وتعدى إلى واحد ، واستفهامية والفعل قبلها معلق ، والجملة في موضع نصب .
ولما ذكر إمداد الضال في ضلالته وارتباكه في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذلك بزيادة هدى للمهتدي وبذكر ( الباقيات ) التي هي بدل من تنعمهم في الدنيا الذي يضمحل ولا يثبت . و ( مردا ) معناه مرجعا وتقدم تفسير ( والباقيات الصالحات ) في الكهف . وقال : ( يزيد ) معطوف على موضع ( فليمدد ) ؛ لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مدا ويمد له الرحمن ( ويزيد ) ، أي : يزيد في ضلال الضال بخذلانه ، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه انتهى . ولا يصح أن يكون ( ويزيد ) معطوفا على موضع ( فليمدد ) سواء كان دعاء أم خبرا بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت ( من ) موصولة أو في موضع الجواب إن كانت ( من ) شرطية ، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله ( الزمخشري ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر ، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء ، وإذا كانت أداة الشرط اسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقوم مقامه ، وكذا في الجملة المعطوفة عليها . وقال : هي ( خير ) ( ثوابا ) من مفاخرات الكفار ( الزمخشري وخير مردا ) ، أي : وخير مرجعا وعاقبة أو منفعة من قولهم ليس لهذا الأمر مرد وهل يرد مكاني زيدا . فإن قلت : كيف قيل خير ثوابا ، كان لمفاخراتهم [ ص: 213 ] ثواب حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه ؟ قلت : كأنه قيل ثوابهم النار على طريقة قوله : فأعتبوا بالصيلم . وقوله :
شجعاء جرتها الذميل تلوكه أصلا إذا راح المطي غراثا
وقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم بنى عليه خير ثوابا وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له عقابك النار . فإن قلت : فما وجه التفضيل في الخبر كان لمفاخرهم شركاء فيه ؟ قلت : هذا من وجيز كلامهم ، يقولون : الصيف أحر من الشتاء ، أي : أبلغ في حره من الشتاء في برده . انتهى .
( أفرأيت الذي كفر بآياتنا ) نزلت في العاصي بن وائل ، عمل له عملا وكان قينا ، فاجتمع له عنده دين فتقاضاه ، فقال : لا أنصفك حتى تكفر خباب بن الأرت بمحمد ، فقال خباب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك . فقال العاصي : أومبعوث أنا بعد الموت ؟ فقال خباب : نعم ، قال : فأت إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك . وقال الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقد كانت للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض ، ولما كانت رؤية الأشياء سبيلا إلى الإحاطة بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، والفاء للعطف أفادت التعقيب ، كأنه قيل : أخبر أيضا بقصة هذا الكافر عقيب قصة أولئك ، والآيات : القرآن والدلالات على البعث . وقرأ الجمهور ( ولدا ) أربعتهن هنا ، وفي الزخرف بفتح اللام والواو ويأتي الخلاف في نوح . وقرأ الأعمش وطلحة والكسائي وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني ، بضم الواو وإسكان اللام ، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى على الجنس لا ملحوظا فيه الإفراد وإن كان مفرد اللفظ ، وعلى هذه القراءة فقيل هو جمع كأسد وأسد ، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر :
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقيل : هو مرادف للولد بالفتحتين ، واحتجوا بقوله :
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
وقرأ عبد الله بكسر الواو وسكون اللام ، والهمزة في ( أطلع ) للاستفهام ، ولذلك عادلتها ( أم ) . وقرئ بكسر الهمزة في الابتداء وحذفها في الوصل ، على تقدير حذف همزة الاستفهام لدلالة ( أم ) عليها كقوله : ويحيى بن يعمر
بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد أبسبع ، وجاء التركيب في ( أرأيت ) على الوضع الذي ذكره من أنها تتعدى لواحد تنصبه ، ويكون الثاني استفهاما ، فـ ( أطلع ) وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت ، وما جاء من تركيب أرأيت بمعنى أخبرني على خلاف هذا في الظاهر ينبغي أن يرد إلى هذا بالتأويل . سيبويه
قال : ( الزمخشري أطلع الغيب ) من قولهم : أطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه واطلع الثنية . قال جرير :
لاقيت مطلع الجبال وعورا
وتقول : مر مطلعا لذلك الأمر ، أي : عاليا له مالكا له ، ولاختيار هذه الكلمة شأن تقول : أوقد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار ، والمعنى أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين ، إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك .
والعهد . قيل كلمة الشهادة . وقال قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول . وعن الكلبي : هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك . و ( كلا ) ردع وتنبيه على الخطأ الذي هو مخطئ فيما تصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه . وقرأ أبو نهيك ( كلا ) بالتنوين فيهما هنا وهو مصدر من كل السيف كلا إذا نبا عن الضريبة ، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلا عن عبادة الله أو عن الحق ونحو ذلك .
[ ص: 214 ] وكنى بالكتابة عن ما يترتب عليها من الجزاء . فلذلك دخلت السين التي للاستقبال ، أي : ( سنجازيه ) على ما يقول . وقال : فيه وجهان : الزمخشري
أحدهما : سيظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله على طريقة قوله :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست ابن لئيمة .
والثاني : أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك يعني أنه لا يبخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان ، واستأخر فجردها هنا لمعنى الوعيد انتهى .
وقرأ الجمهور ( سنكتب ) بالنون ، بياء مضمومة ، والتاء مفتوحة مبنيا للمفعول ، وذكرت عن والأعمش عاصم . ( ونمد ) أي : نطول له ( من العذاب ) الذي يعذب به المستهزئون أو نزيده من العذاب ونضاعف له المدد . وقرأ ( علي بن أبي طالب ونمد له ) ، يقال مده وأمده بمعنى . ( ونرثه ما يقول ) ، أي : نسلبه المال والولد فنكون كالوارث له . وقال الكلبي : نجعل ما يتمنى من الجنة لغيره . وقال أبو سهيل : نحرمه ما يتمناه من المال والولد ونجعله لغيره . قال : ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا ، وبلغت به أشعبيته أن تألى على الله في قوله ( لأوتين ) لأنه جواب قسم مضمر ، ومن يتأل على الله يكذبه فيقول الله عز وعلا : هب أنا أعطيناه ما اشتهاه ، إما نرثه منه في العاقبة ( الزمخشري ويأتينا فردا ) غدا ، بلا مال ولا ولد ، كقوله تعالى ( ولقد جئتمونا فرادى ) الآية فما يجدي عليه تمنيه وتأليه . ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حيا ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ( ويأتينا ) رافضا له ( منفردا ) عنه غير قائل له . انتهى .
وقال النحاس : ( ونرثه ما يقول ) معناه نحفظه عليه للعاقبة ومنه : العلماء ورثة الأنبياء ، أي : حفظة ما قالوه . انتهى . و ( فردا ) تتضمن ذلته وعدم أنصاره ، و ( يقول ) صلة ( ما ) ، مضارع والمعنى على الماضي ، أي : ما قال . والضمير في ( واتخذوا ) لعبادة الأصنام وقد تقدم ما يعود عليه وهم الظالمون في قوله ( ونذر الظالمين ) فكل ضمير جمع ما بعده عائد عليه إن كان مما يمكن عوده عليه ، واللام في ( ليكونوا ) لام كي ، أي : ( ليكونوا ) ، أي : الآلهة ( لهم عزا ) يتعززون بها في النصرة والمنفعة والإنقاذ من العذاب .
( كلا ) قال : ( كلا ) ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة . وقرأ الزمخشري ابن نهيك ( كلا سيكفرون بعبادتهم ) ، أي : سيجحدون ( كلا سيكفرون بعبادتهم ) كقولك : زيد مررت بغلامه ، وفي محتسب ( كلا ) بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والاعتقاد كلا ، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي ( كلا ) التي للردع ، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في ( قواريرا ) . انتهى . فقوله وقرأ ابن جني ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ ( كلا ) بفتح الكاف والتنوين ، وكذا حكاه عنه أبو الفتح . وقال ابن عطية وهو يعني ( كلا ) نعت للآلهة قال : وحكى عنه - أي : عن أبي نهيك - ( كلا ) بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه ( سيكفرون ) تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه . وأما قول أبو عمرو الداني ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد ؛ لأنه قال : إنها التي للردع ، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نونا ، وتشبيهه ( بقواريرا ) ليس بجيد ؛ لأن ( قواريرا ) اسم رجع به إلى أصله ، فالتنوين ليس بدلا من ألف بل هو تنوين الصرف . وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز ؟ قولان ، ومنقول أيضا أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم ، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة . وذكر الزمخشري عن الطبري أبي نهيك أنه قرأ ( كل ) بضم الكاف ورفع اللام ، ورفعه على الابتداء ، والجملة بعده الخبر ، وتقدم ظاهر وهو الآلهة ، وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن [ ص: 215 ] الضمير في ( سيكفرون ) عائد على أقرب مذكور محدث عنه . فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال : ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم ) وفي آخرها ( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) وتكون ( آلهة ) هنا مخصوصا بمن يعقل ، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكا تنكر به عبادة عابديه . ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا ( والله ربنا ما كنا مشركين ) لكن قوله ( ويكونون ) يرجح القول الأول لاتساق الضمائر لواحد ، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في ( سيكفرون ) للمشركين وفي ( يكونون ) للآلهة .
ومعنى ( ضدا ) أعوانا قاله . وقال ابن عباس الضحاك : أعداء . وقال قتادة : قرناء . وقال ابن زيد : بلاء . وقال ابن عطية : معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أملوه فيئول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز ، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد . وقال : والضد العون وحد توحيد وهم على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ، ومعنى كونهم عونا عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم . الزمخشري