تقدم تفسير نظير صدر هذه الآية : و ( شيء ) هنا مفرد معناه الجمع ، أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحدا بعد واحد . ( جدلا ) خصومة ومماراة يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل [ ص: 139 ] كل شيء ، ونحوه ( فإذا هو خصيم مبين ) وانتصب ( جدلا ) على التمييز . قيل : ( الإنسان ) هنا النضر بن الحارث . وقيل : ابن الزبعرى . وقيل : أبي بن خلف ، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره ، فقال : أيقدر الله على إعادة هذا ؟ قاله ابن السائب . قيل : كل من يعقل من ملك وجن يجادل والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا انتهى .
وكثيرا ما يذكر الإنسان في معرض الذم وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) حين عاتب عليا - كرم الله وجهه - على النوم عن صلاة الليل ، فقال له علي : إنما نفسي بيد الله ، فاستعمل ( الإنسان ) على العموم . وفي قوله ( وقد تلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( وما منع الناس ) الآية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم ؛ لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا ، فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم . و ( الناس ) يراد به كفار عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها ، قاله ابن عطية .
وقال : إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره ( الزمخشري وما منع الناس ) الإيمان ( إلا ) انتظار ( أن تأتيهم سنة الأولين ) وهي الإهلاك ( أو ) انتظار ( أن يأتيهم العذاب ) يعني عذاب الآخرة انتهى . وهو مسترق من قول . قال الزجاج : تقديره ما منعهم من الإيمان ( إلا ) طلب ( الزجاج أن تأتيهم سنة الأولين ) . وقال الواحدي : المعنى ما منعهم إلا أني قد قدرت عليهم العذاب ، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير ( وما منع الناس أن يؤمنوا ) إلا ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم ( سنة الأولين ) من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك ، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة . وقال صاحب الغنيان : إلا إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين ، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم ( إن كان هذا هو الحق من عندك ) . وقيل : ( ما ) هنا استفهامية لا نافية ، والتقدير وأي شيء ( منع الناس ) أن ( يؤمنوا ) و ( الهدى ) الرسول أو القرآن قولان .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء ، فاحتمل أن يكون بمعنى " قبلا " ؛ لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، وأن يكون جمع قبيل ، أي : يجيئهم العذاب أنواعا وألوانا . وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عيانا . وقرأ أبو رجاء والحسن أيضا بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم . وذكر ابن قتيبة أنه قرئ بفتحتين وحكاه وقال مستقبلا . وقرأ الزمخشري أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلا بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل . " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين " ، أي : بالنعيم المقيم لمن آمن " ومنذرين " ، أي : بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا لتملى عليهم الاقتراحات " ليدحضوا " ليزيلوا " واتخذوا آياتي " يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولا وفعلا " وما أنذروا " من عذاب الآخرة ، واحتملت " ما " أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : " وما " أنذروه وأن تكون مصدرية ، أي : وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح ، " هزؤا " أي : سخرية واستخفافا لقولهم : أساطير الأولين ، لو شئنا لقلنا مثل هذا ، وجدالهم للرسل - صلى الله عليهم وسلم - قولهم " ما أنتم إلا بشر مثلنا " " ولو شاء الله لأنزل ملائكة " وما أشبه ذلك ، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفردا في قوله " أن يفقهوه " وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا .
وتقدم تفسير نظير [ ص: 140 ] قوله " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا " ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبدا وهذا من العام ، والمراد به الخصوص ، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدى كثير من الكفرة وآمنوا ، ويحتمل أن يكون ذلك حكما على الجميع ، أي : " وإن تدعهم " ، أي : " إلى الهدى " جميعا " فلن يهتدوا " جميعا " أبدا " وحمل أولا على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله " إنا جعلنا على قلوبهم " فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سببا لوجود الاهتداء ، سببا لانتفاء هدايتهم ، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصا منه - عليه الصلاة والسلام - على حصول إيمانهم ، فقيل : " وإن تدعهم " وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم .
و " الغفور " صفة مبالغة و " ذو الرحمة " ، أي : الموصوف بالرحمة ، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى " لا يؤاخذهم " عاجلا بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والموعد أجل الموت ، أو عذاب الآخرة ، أو يوم بدر ، أو يوم أحد ، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال .
والموئل قال مجاهد : المحرز . وقال الضحاك : المخلص والضمير في " من دونه " عائد على الموعد . وقرأ ( مولا ) بتشديد الواو من غير همز ولا ياء . وقرأ الزهري أبو جعفر عن الحلواني عنه مولا بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء . وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة ، وأشار تعالى بقوله " وتلك القرى " إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم ، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى . " وتلك " مبتدأ و " القرى " صفة أو عطف بيان والخبر " أهلكناهم " ويجوز أن تكون " القرى " الخبر و " أهلكناهم " جملة حالية كقوله " فتلك بيوتهم خاوية " ويجوز أن تكون " تلك " منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده ، أي : وأهلكنا " تلك القرى أهلكناهم " و " تلك القرى " على إضمار مضاف ، أي : وأصحاب تلك القرى ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله " أهلكناهم " . وقوله " لما ظلموا " إشعار بعلة الإهلاك وهي الظلم ، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية " لما " وأنها ليست بمعنى حين ؛ لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية . وفي قوله " لما ظلموا " تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما ، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدرا أو زمانا . وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام ، واحتمل أن يكون مصدرا مضافا إلى المفعول وأن يكون زمانا . وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك . وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل . وقيل : هلك يكون لازما ومتعديا فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول ، وأنشد أبو علي في ذلك :
ومهمه هالك من تعرجا
ولا يتعين ما قاله أبو علي في هذا البيت ، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجا . فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه ، وانتصب " من " على التشبيه بالمفعول ثم أضافه من نصب ، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة ؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب . قال الشاعر وهو : عمر بن أبي ربيعة
أسيلات أبدان دقاق خصورها وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقال آخر : فعجتها قبل الأخيار منزلة والطيبي كل ما التاثت به الأزر [ ص: 141 ]