مناسبة قوله : ( قل لو أنتم تملكون خزائن ) الآية ، أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم ; لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية ، وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه - عليه السلام - قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ، ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا [ ص: 84 ] الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلا الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام ، وبذله ما آتاه الله ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في ( خزائن رحمة ) الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك ، بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع ؛ إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في ( لو ) التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضيا وإما مضارعا ، كقوله : ( لو نشاء لجعلناه حطاما ) أو منفيا بلم أو إن وهنا في قوله : ( قل لو أنتم تملكون ) وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري و ابن عطية و أبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله :
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها . التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو ، فصار ( أنتم ) وهذا التخريج بناء على أن ( لو ) يليها الفعل ظاهرا ومضمرا في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين .
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي ( لو ) إلا الفعل ظاهرا و لا يليها مضمرا إلا في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :
لو ذات سوار لطمتني
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذا كقولهم :
لو ذات سوار لطمتني
وهو عندهم على فعل مضمر ، كقوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) فهو من باب الاشتغال . انتهى . وخرج ذلك على إضمار كان ، والتقدير ( قل لو ) كنتم ( أنتم ) تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي ( أنتم ) توكيدا لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلا بها ، والتقدير ( قل لو ) كنتم ( تملكون ) فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن ; لأن حذف كان بعد ( لو ) معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه .
والكلام على ( إذا لأمسكتم ) تقدم نظيره في قوله : ( إذا لأذقناك ) و ( خشية ) مفعول من أجله ، والظاهر أن ( الإنفاق ) على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي خشية عاقبة الإنفاق وهو النفاد . وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار . والقتور الممسك البخيل ( الإنسان ) هنا للجنس .
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم ( أرنا الله جهرة ) إذ قالت قريش : [ ص: 85 ] ( أو تأتي بالله ) وقالت : ( أو نرى ربنا ) وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى ل فرعون إذ أهلكه الله ومن معه . و ( تسع آيات ) قال وجماعة من الصحابة : هي اليد البيضاء ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم هذه سبع باتفاق ، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقدة فحلها الله ، والبحر الذي فلق له ، وعنه أيضا البحر والجبل الذي نتق عليهم ، وعنه أيضا السنون ونقص من الثمرات ، وقاله ابن عباس مجاهد والشعبي و عكرمة و قتادة . وقال الحسن : السنون ونقص الثمرات آية واحدة ، وعن الحسن و وهب : البحر والموت أرسل عليهم . وعن ابن جبير : الحجر والبحر ، وعن : البحر والسنون . وقيل : ( تسع آيات ) هي من الكتاب ، وذلك أن يهوديا قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر : لا تقل إنه نبي ; فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين ، فأتياه وسألاه عن ( محمد بن كعب تسع آيات بينات ) فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ، ولا تسخروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت ، قال : فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبي فقال : ما منعكما أن تسلما ؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
وقرأ الجمهور : فسل ( بني إسرائيل ) وبنو إسرائيل معاصروه ، وفسل معمول لقول محذوف أي : فقلنا سل ، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة ، ثم قال : ( إذ جاءهم ) يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم . وقال : سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم ، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك . ويدل عليه قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل ( بني إسرائيل ) على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش . وقيل : فسل يا رسول الله المؤمنين من الزمخشري بني إسرائيل ، وهم وأصحابه عن الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة قلب ; لأن الدلالة إذا تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول عبد الله بن سلام إبراهيم عليه السلام ( ولكن ليطمئن قلبي ) . انتهى . وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة ، ولما كان متعلق السؤال محذوفا احتمل هذه التقديرات ، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة . وقال ابن عطية ما معناه : يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم نحو قوله : ( وسل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) جعل النظر والتطلب معبرا عنه بالسؤال ، ولذلك قال الحسن : سؤالك إياهم نظرك في القرآن ، والظاهر أن ( إذ ) معمولة لآتينا أي آتينا حين جاء أتاهم .
وقال : فإن قلت : بم تعلق ( إذ جاءهم ) قلت : أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي : فقلنا له : سلهم حين جاءهم ، وإما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أو يخبرونك . انتهى . ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك ; لأنه ظرف ماض . وقراءة فسأل مروية عن الزمخشري . قال ابن عباس : كلام محذوف وتقديره فسأل ابن عباس موسى فرعون بني إسرائيل أي : طلبهم ; لينجيهم من العذاب . انتهى . وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له : سل ( بني إسرائيل ) أي : سل فرعون إطلاق بني إسرائيل .
وقال أبو عبد الله الرازي : فسل ( بني إسرائيل ) اعتراض في الكلام ، والتقدير ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) إذ جاء ( بني إسرائيل ) فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام ، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد . انتهى . وعلى قراءة فسأل ماضيا وقدره فسأل فرعون ( بني إسرائيل ) يكون المفعول الأول لسأل محذوفا ، والثاني هو ( بني إسرائيل ) وجاز أن يكون من الأعمال ; لأنه توارد على فرعون سأل وفقال [ ص: 86 ] فأعمل الثاني على ما هو أرجح .
والظاهر أن قوله : ( مسحورا ) اسم مفعول أي : قد سحرت بكلامك هذا مختل ، وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض . وقال الفراء : مفعول بمعنى فاعل أي : ساحرا ، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر ، وقالوا : مفعول بمعنى فاعل مشئوم وميمون وإنما هو شائم ويامن . وقرأ الجمهور : ( لقد علمت ) بفتح التاء على خطاب والطبري موسى لفرعون ، وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي : لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ، ولا أني خدعت في عقلي ، بل علمت أنه ما أنزلها إلا الله ، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ ( رب السماوات والأرض ) إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته ، فقال له : وما رب العالمين قال : ( رب السماوات والأرض ) ينبهه على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة ، فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند ، كقوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي : أنت بحال من يعلم هذا ، وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه . وقرأ علي بن أبي طالب و زيد بن علي ( علمت ) بضم التاء أخبر والكسائي موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون ، بل هو يعلم أن ( ما أنزل هؤلاء ) الآيات إلا الله .
وروي عن علي أنه قال : ما علم عدو الله قط وإنما علم موسى ، وهذا القول عن علي لا يصح ; لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول ، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون .
و ( ما أنزل ) جملة في موضع نصب علق عنها ( علمت ) ومعنى ( بصائر ) دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله ، والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع . وانتصب ( بصائر ) على الحال في قول ابن عطية والحوفي و أبي البقاء ، وقالا : حال من ( هؤلاء ) وهذا لا يصح إلا على مذهب الكسائي والأخفش ; لأنهما يجيزان ما ضرب هندا هذا إلا زيد ضاحكة . ومذهب الجمهور : أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله ، التقدير ضربها ضاحكة ، وكذلك يقدرون هنا أنزلها ( بصائر ) وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها ، إلا أن يكون مستثنى منه أو تابعا له .
وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال : ( وإني لأظنك يافرعون مثبورا ) وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل ، وظن موسى ظن صدق ، ولذلك آل أمر فرعون إلى الهلاك كان أولا موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى ، كما قال : ( إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) فأمر أن يقول له قولا لينا ، فلما قال له الله : لا تخف وثق بحماية الله ، فصال على فرعون صولة المحمي ، وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك . ومثبور مهلك في قول الحسن و مجاهد ، وملعون في قول ، وناقص العقل فيما روى ابن عباس ، ومسحور في قول ميمون بن مهران الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا ؟ أي : ما منعك وصرفك . وقرأ أبي وإن أخالك يا فرعون لمثبورا وهي إن الخفيفة ، واللام الفارقة ، واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه . ومن قومه والضمير في ( من بعده ) عائد على فرعون أي : من بعد إغراقه ، و ( الأرض ) المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى - عليه السلام - ووعد الآخرة قيام الساعة .