الضمير في ( وإن كادوا ) قيل : لقريش ، وقيل : لثقيف ، وذكروا أسباب نزول مختلفة ، وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويوقف على ذلك في تفسير ابن عطية والتحرير وغير ذلك ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني والزمخشري آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ، ومن عمى أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة ، ومعنى ( ليفتنونك ) ليخدعونك ، وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم عليه السلام أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه ، وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا ، وما اقترحته [ ص: 65 ] ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه و ( إن ) هذه هي المخففة من الثقيلة ، وليتها الجملة الفعلية وهي ( كادوا ) لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو ، واللام في ( ليفتنونك ) هي الفارقة بين إن هذه وإن النافية ( وإذا ) حرف جواب وجزاء ، ويقدر قسم هنا تكون ( لاتخذوك ) جوابا له ، والتقدير والله ( إذا ) أي : إن افتتنت وافتريت ( لاتخذوك ) ولاتخذوك في معنى ليتخذونك كقوله ( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا ) أي : ليظلن لأن ( إذا ) تقتضي الاستقبال ; لأنها من حيث المعنى جزاء فيقدر موضعها بأداة الشرط .
وقال : ( الزمخشري وإذا لاتخذوك ) أي : ولو اتبعت مرادهم ( لاتخذوك خليلا ) ولكنت لهم وليا ، ولخرجت من ولايتي . انتهى . وهو تفسير معنى لا إن ( لاتخذوك ) جواب لو محذوفة . قال : ( الزمخشري ولولا أن ثبتناك ) ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم ، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت ، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذن لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة ( لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين . فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟ قلت : أصله ( لأذقناك ) عذاب الحياة وعذاب الممات ; لأن العذاب عذابان ، عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : ( فآتهم عذابا ضعفا من النار ) يعني مضاعفا ، فكان أصل الكلام ( لأذقناك ) عذابا ضعفا في الحياة ، وعذابا ضعفا في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل : ( ضعف الحياة وضعف الممات ) كما قيل : ( لأذقناك ) أليم الحياة وأليم الممات ، ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار ، والمعنى لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا . وما نؤخره لما بعد الموت . انتهى .
وجواب ( لولا ) يقتضي إذا كان مثبتا امتناعه لوجود ما قبله ، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلا عن الركون ، والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله . وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف : ( تركن ) بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب ( شيئا ) على المصدر . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات على معنى أن ما يستحقه من أذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه . وذهب إلى أن المعنى لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت إلى قولهم بسبب فعلهم إليه مجازا واتساعا ، كما تقول للرجل : كدت تقتل نفسك أي : كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت . ابن الأنباري
وقال : كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوما ، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه . انتهى . واللام في ( ابن عباس لأذقناك ) جواب قسم محذوف قبل ( إذا ) أي : والله إن حصل ركون ليكونن كذا ، والقول في ( لأذقناك ) كالقول في ( لاتخذوك ) من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون ، وممن نص على أن اللام في ( لاتخذوك ) و ( لأذقناك ) هي لام القسم الحوفي . وقال : وفي ذكر الكيدودة وتعليلها مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته . انتهى . ومن ذلك ( الزمخشري يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة ) الآية . قال : وفيه أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . انتهى . الزمخشري
وروي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . قال حضرمي : الضمير في ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وإن كادوا ) ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، [ ص: 66 ] وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها ; فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد ( إلا قليلا ) .
وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة ، وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع . قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة . انتهى .
وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج ، واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا ( إلا قليلا ) يوم بدر . وقال حاكيا أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في الزجاج دار الندوة من قتله ، والأرض على هذا الدنيا . وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها ; لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ; ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا . ذهب مجاهد إلى أن الضمير في ( يلبثون ) لجميعهم . وقال الحسن : ( ليستفزونك ) ليفتنونك عن رأيك . وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك . وأنشد :
يطيع سفيه القوم إذ يستفزه ويعصي حليما شيبته الهزاهز
والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) أي : أخرجك أهلها . وفي الحديث : " " الحديث . فدل ذلك على أنهم أخرجوه ، لكن الإخراج الذي هو علة للاستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث . وقال يا ليتني كنت فيها جذعا إذ يخرجك قومك قال : أومخرجي هم أبو عبد الله الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم ، وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض . انتهى .
( ولا يلبثون ) جواب قسم محذوف أي : والله إن استفزوك فخرجت ( لا يلبثون ) ولذلك لم تعمل ( إذا ) لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون ( لا يلبثون ) خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم ( وإذا لا يلبثون ) فوقعت إذا بين المبتدأ وخبره فألغيت . وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذا فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم ، وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون .
قال : فإن قلت : ما وجه القراءتين ؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم . وأما قراءة الزمخشري أبي ففيها الجملة برأسها التي هي وإذا لا يلبثوا عطف على جملة قوله : ( وإن كادوا ليستفزونك ) . انتهى . وقرأ عطاء ( لا يلبثون ) بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة . وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء . وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص ( خلافك ) وباقي السبعة خلفك ، والمعنى واحد . قال الشاعر :
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
وهذا كقوله ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ) أي : خلف رسول الله في أحد التأويلات . وقرأ : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيرا لخلفك لا قراءة ; لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان ، وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك . وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطرد إضافتها إلى أسماء [ ص: 67 ] الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي : خلف إخراجك ، وجاء زيد قبل عمرو ، أي : قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي : بعد ضحك خالد . وانتصب ( سنة ) على المصدر المؤكد أي : سن الله سنة ، والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلا قليلا . وقال عطاء بن أبي رباح الفراء : انتصب ( سنة ) على إسقاط الخافض ; لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف ، وعلى هذا لا يقف على قوله : ( إلا قليلا ) . وقال أبو البقاء : ( سنة ) منصوب على المصدر ، أي : سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء ، ويجوز أن يكون مفعولا به ، أي : اتبع ( سنة من قد أرسلنا ) كما قال تعالى : ( فبهداهم اقتده ) . انتهى . وهذا معنى غير الأول ، والمفسرون على الأول وهو المناسب لمعنى الآية قبلها ( ولن تجد ) لما أجرينا به العادة ( تحويلا ) منه إلى غيره ؛ إذ كل حادث له وقت معين وصفة معينة ونفي الوجدان هنا وفيما أشبهه معناه نفي الوجود .