[ ص: 17 ] لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهي مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمادي على الفساد . وقال : ( الزمخشري وإذا أردنا ) وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلا قليل . انتهى . فتؤول ( أردنا ) على معنى دنا وقت إهلاكهم ، وذلك على مذهب الاعتزال . وقرأ الجمهور أمرنا ، وفي هذه القراءة قولان :
أحدهما : وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي ، واختلف في متعلقه فذهب الأكثرون منهم ابن عباس إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا ، وذهب وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ، ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال : أي : أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز ; لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون [ ص: 18 ] فبقي أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ; ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه . وذلك أن المأمور به إنما حذف ; لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض . يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره ، فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري ; لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به ، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ; لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهى غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط ، والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير [ ص: 19 ] ( الزمخشري ففسقوا ) قلت : لا يصح ذلك ; لأن قوله ( ففسقوا ) يدافعه فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه . ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد . انتهى .
أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن ( أمرنا مترفيها ) صببنا عليهم النعمة صبا فيبعد جدا . وأما قوله : وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدل على حذفه . وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله : علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقة عليه ، ومنه ما مثل به في قوله : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وله ما سكن في الليل والنهار ) قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك . وقوله تعالى : ( سرابيل تقيكم الحر ) قالوا : الحر والبرد . وقول الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
وقال أبو عبد الله الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني ، يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق ; لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ، كما أن كونه معصية ينافي كونها مأمورا بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق . هذا الكلام في غاية الظهور ، فلا أدري لما أصر صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة ، وهي الإيمان والطاعة ، والقوم خالفوا ذلك عنادا ، وأقدموا على الفسق . انتهى .
القول الثاني : أن معنى ( أمرنا ) كثرنا ، أي : كثرنا ( مترفيها ) [ ص: 20 ] يقال : أمر الله القوم أي : كثرهم . حكاه أبو حاتم عن أبي زيد . وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : " " أي : كثيرة النسل ، يقال : أمر الله المهرة أي : كثر ولدها ، ومن أنكر : أمر الله القوم بمعنى كثرهم ، لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ، ويكون من باب ما لزم وعدي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم : كثروا ، وأمرهم الله : كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم الله فأمروا كقولك شتر الله عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت . خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة . ( أمرنا ) بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ، ورد ابن عباس الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ، ومعناها كثرنا . حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر الله ماله وأمره أي : كثره بكسر الميم وفتحها . وقرأ ، علي بن أبي طالب وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، ، وعبد الله بن أبي يزيد والكلبي : ( آمرنا ) بالمد ، وجاء كذلك عن ، ابن عباس والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمز ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ، ومعناه كثرنا . يقال أمر الله القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة . وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية : ( أمرنا ) بتشديد الميم ، وروي ذلك عن علي والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضا كثرنا ، وقد يكون أمرنا بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميرا أي : ولي الأمر . وقال أبو علي الفارسي : لا وجه لكون ( أمرنا ) من الإمارة ; لأن رياستهم لا تكون إلا لواحد بعد واحد ، والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو علي لا يلزم ; لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميرا من يؤتمر به ، وإن لم يكن ملكا . ولئن سلمنا أنه أريد به الملك فلا يلزم ما قال ; لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ، ثم آخر ففسق ، ثم كذلك كثر الفساد وتوالى الكفر ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم ، ورأيت في النوم أني قرأت وقرئ بحضرتي ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ) الآية بتشديد الميم . فأقول في النوم : ما أفصح هذه القراءة ، والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم . وقيل : ( القول ) ( لأملأن ) ، ( وهؤلاء في النار ولا أبالي ) .
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء . ( وكم ) في موضع نصب على المفعول بـ أهلكنا أي : كثيرا من القرون أهلكنا ، و من القرون بيان لكم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس ، والقرون عاد وثمود وغيرهم ، ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب ، وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة ، وقال : ( من بعد نوح ) ولم يقل : من بعد آدم ; لأن نوحا أول نبي بالغ قومه في تكذيبه ، وقومه أول من حلت بهم العقوبة بالعظمى ، وهي الاستئصال بالطوفان . وتقدم القول في عمر القرن و ( من ) الأولى للتبيين ، والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بـ أهلكنا لاختلاف معنييهما . وقال الحوفي : ( من بعد نوح ) من الثانية بدل من الأولى . انتهى . وهذا ليس بجيد . وقال ابن عطية : هذه الباء يعني في ( وكفى بربك ) إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم . انتهى . و ( بذنوب عباده ) تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، و ( خبيرا بصيرا ) تنبيه على أنه عالم بها فيعاقب عليها ويتعلق ( بذنوب ) بخبيرا أو ببصيرا . وقال الحوفي : تتعلق بكفى . انتهى . وهذا وهم و ( العاجلة ) هي الدنيا ، ومعنى إرادتها : إيثارها على الآخرة ، ولابد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) فالتقدير : من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر . وقيل : المراد ( من كان يريد العاجلة ) بعمل الآخرة كالمنافق [ ص: 21 ] والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال - عليه السلام : " " . وقال - عليه الصلاة والسلام : " ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب
وقيل : نزلت في المنافقين ، وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب ، و ( من ) شرط ، وجوابه ( عجلنا له فيها ما نشاء ) فقيد المعجل بمشيئته أي : ما يشاء تعجيله . و ( لمن نريد ) بدل من قوله : ( له ) بدل بعض من كل ; لأن الضمير في ( له ) عائد على من الشرطية ، وهي في معنى الجمع ، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى ، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده ، ألا ترى أن كثيرا من الناس يختارون الدنيا ، ولا يحصل لهم منها إلا ما قسمه الله لهم ، وكثير منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم ، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة . وقرأ الجمهور ( ما نشاء ) بالنون ، وروي عن نافع ما يشاء بالياء . فقيل : الضمير في يشاء يعود على الله ، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء . وقيل : يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في ( له ) وليس ذلك عاما ، بل لا يكون له ما يشاء إلا آحادا أراد الله لهم ذلك ، والظاهر أن الضمير في ( لمن نريد ) يقدر مع تقديره مضاف محذوف ، يدل عليه ما قبله ، أي : لمن نريد تعجيله له أي : تعجيل ما نشاء . وقال : المعنى : لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية . أبو إسحاق الفزاري