( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) قال والأكثرون : نزلت في ابن عباس أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم إلى أذرعات وأريحا كفعله ببني النضير ، فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، أي : ليس عند الرسول إلا الذبح ، فكانت هذه خيانته في قصة طويلة ، وقال جابر : في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بشيء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال : في قتل المغيرة بن شعبة عثمان . قال ابن عطية : ويشبه أن يتمثل بالآية في قتله ؛ فقد كان قتله خيانة لله ورسوله والأمانات ، انتهى ; وقيل : في حين كتب إلى أهل حاطب بن أبي بلتعة مكة يعلمهم بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ; وقيل : في قوم كانوا يسمعون الحديث من الرسول فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وخيانتهم الله في عدم امتثال أوامره وفعل ما نهى عنه في سر ، وخيانة الرسول فيما استحفظ ، وخيانة الأمانات إسقاطها وعدم الاعتبار بها ; وقيل : وتخونوا ذوي أماناتكم ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية ، أي : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله ، فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة ; لأن العالم بما يترتب على الذنب يكون أبعد الناس عنه ; وقيل : وأنتم تعلمون أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو ; وقيل : وأنتم عالمون تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن ، وجوزوا في ( وتخونوا ) أن يكون مجزوما عطفا على لا تخونوا ، ومنصوبا على جواب النهي ، وكونه مجزوما هو الراجح ; لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع ، والجزم يقتضي النهي عن كل واحد ، وقرأ مجاهد ( أمانتكم ) على التوحيد ، وروي ذلك عن أبي عمرو .
( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) ، أي : سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم ، أو العذاب ، أو محنة ، واختبار لكم وكيف تحافظون على حدوده فيها ، ففي كون الأجر العظيم عنده إشارة إلى أن لا يفتن المرء بماله وولده ، فيؤثر محبته لهما على ما عند الله فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك ، كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة .
( ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) فرقانا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدي وابن قتيبة ومالك فيما روي عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب : مخرجا ، وقرأ مالك : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، والمعنى : مخرجا في الدين من الضلال ، وقال مزرد بن ضرار :
بادر الأفق أن يغيب فلما أظلم الليل لم يجد فرقانا
وقال الآخر :
ما لك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال الآخر :
وكيف أرجي الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنية فرقان
وقال ابن زيد وابن إسحاق : فصلا بين الحق والباطل ، وقال قتادة وغيره : نجاة ، وقال الفراء : فتحا ونصرا ، وهو في الآخرة يدخلكم الجنة والكفار النار ، وقال ابن عطية : فرقا بين حقكم وباطل [ ص: 487 ] من ينازعكم ، أي : بالنصر والتأييد عليهم ، والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين : حال بينهما ، وقال : نصرا ; لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، ومنه قوله تعالى : ( يوم الفرقان ) ، أو بيانا وظهورا يشهد أمركم ويثبت صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض ، تقول : بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر ، أو مخرجا من الشبهات وتوفيقا وشرحا للصدور ، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان ، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة ، انتهى ، ولفظ فرقانا مطلق فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة ، والتقوى هنا إن كانت من اتقاء الكبائر كانت السيئات الصغائر ليتغاير الشرط والجواز ، وتكفيرها في الدنيا ، ومغفرتها إزالتها في القيامة ، وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار ، وتقدم تفسير ( الزمخشري والله ذو الفضل العظيم ) في البقرة .