شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله .
[ ص: 166 ] انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات ، إلى إثبات صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى جعل الله حكما بينه وبين مكذبيه ، فالجملة استئناف ابتدائي ، ومناسبة ظاهرة .
روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحدا مصدقك بما تقول ، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنك رسول الله . فنزلت هذه الآية .
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بينته عند قوله تعالى : قل لمن ما في السماوات والأرض ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام .
و أي اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام ، والمضاف إليه هنا هو ( شيء ) المفسر بأنه من نوع الشهادة .
و ( شيء ) اسم عام من الأجناس العالية ذات العموم الكثير ، قيل : هو الموجود ، وقيل : هو ما يعلم ويصح وجوده . والأظهر في تعريفه أنه الأمر الذي يعلم . ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقل ويتحاور فيه ، ومنه قوله تعالى : فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد .
وقد تقدم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ( شيء ) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع في سورة البقرة .
و ( أكبر ) هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات ، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى ، كقوله تعالى : ورضوان من الله أكبر وقوله : قل قتال فيه كبير . وقد تقدم في سورة البقرة .
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها .
وقوله ( شهادة ) تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة . فالمعنى : أية شهادة هي أصدق الشهادات ، فالمستفهم عنه بـ ( أي ) فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنه أصدق أفراد جنسه .
[ ص: 167 ] والشهادة تقدم بيانها عند قوله تعالى شهادة بينكم في سورة المائدة .
ولما كانت شهادة الله على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير معلومة للمخاطبين المكذبين بأنه رسول الله ، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين أي أن تشهد الله على كذب الزوج ، أي أن تحلف على ذلك باسم الله ، فإن لفظ أشهد الله من صيغ القسم إلا أنه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا ، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم ، وبذلك يظهر موقع قوله : الله شهيد بيني وبينكم ، أي أشهده عليكم . وقريب منه ما حكاه الله عن هود قال إني أشهد الله .
وقوله : قل الله شهيد بيني وبينكم جواب للسؤال ، ولذلك فصلت جملته المصدرة بـ قل . وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير ، وكون الجواب مما لا يسع المقرر إنكاره ، على نحو ما بيناه في قوله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله .
ووقع قوله : الله شهيد بيني وبينكم جوابا على لسانهم لأنه مرتب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير : قل شهادة الله أكبر شهادة ، فالله شهيد بيني وبينكم ، فحذف المرتب عليه لدلالة المرتب إيجازا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل . والمعنى : أني أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنني أبلغتكم أنه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم .
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ( شيء ) على الله تعالى لأن قوله الله شهيد وقع جوابا عن قوله أي شيء فاقتضى إطلاق اسم ( شيء ) خبرا عن الله تعالى وإن لم يدل صريحا . وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم . وهذا قول الأشعرية خلافا وأصحابه . لجهم بن صفوان
ومعنى شهيد بيني وبينكم أنه لما لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلا أن يكلهم إلى حساب الله تعالى . والمقصود : إنذارهم بعذاب الله في [ ص: 168 ] الدنيا والآخرة . ووجه ذكر بيني وبينكم أن الله شهيد له ، كما هو مقتضى السياق . فمعنى البين أن الله شهيد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدق لرد إنكارهم رسالته ، كما هو شأن الشاهد في الخصومات .
وقوله : وأوحي إلي هذا القرآن عطف على جملة الله شهيد بيني وبينكم ، وهو الأهم فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة . وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أقامه من الدلائل . فعطف وأوحي إلي هذا القرآن من عطف الخاص على العام ، وحذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى .
والإشارة بـ هذا القرآن إلى ما هو في ذهن المتكلم والسامع . وعطف البيان بعد اسم الإشارة بين المقصود بالإشارة .
واقتصر على جعل علة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأن المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلا الإنذار ، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار ، ولذلك قال لأنذركم به مصرحا بضمير المخاطبين . ولم يقل : لأنذر به ، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشر . على أن لام العلة لا تؤذن بانحصار العلة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدى بها علل كثيرة .
ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين ، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة ، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأن حذفه كثير حسن ، كما قال أبو علي الفارسي .
وعموم من وصلتها يشمل كل من يبلغه القرآن في جميع العصور .