وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير .
هذه الجملة معطوفة على جملة وإن يمسسك الله بضر الآية ، والمناسبة بينهما أن مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة . فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرف في أحوال المخلوقات ، وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرا على أحد أو خبيرا أو عالما بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه ، ولا جرم أن الإله تجب له القدرة والعلم ، وهما جماع صفات الكمال ، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضر وإحياء وإماتة ، وهي تعلقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرا للعرف ، وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنها تعلقات لها ، وهو التحقيق .
ولذلك تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأن التي قبلها ذكرت كمال تصرفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا ، وهذه الآية أوعت قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء ، وذلك أصل جميع الفعل والصنع .
والقاهر الغالب المكره الذي لا ينفلت من قدرته من عدي إليه فعل القهر .
وقد أفاد تعريف الجزءين القصر ، أي لا قاهر إلا هو ، لأن قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذا ، لأنه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها . ومما يشاهد منها دوما النوم وكذلك الموت . سبحان من قهر العباد بالموت .
[ ص: 165 ] و ( فوق ) ظرف متعلق بـ ( القاهر ) وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكا . وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون : وإنا فوقهم قاهرون .
ولا يفهم من ذلك جهة هي في علو كما قد يتوهم ، فلا تعد هذه الآية من المتشابهات .
و ( العباد ) : هم المخلوقون من العقلاء ، فلا يقال للدواب عباد الله ، وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصه بالمخلوقات ، وخص العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك .
ومعنى القهر فوق العباد أنه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم ؛ بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت ، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء ، بحيث إن كل أحد يجد في نفسه أمورا يستطيع فعلها وأمورا لا يستطيع فعلها وأمورا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة ، كالمشي لمن خدرت رجله ; فيعلم كل أحد أن الله هو خالق القدر والاستطاعات لأنه قد يمنعها ، ولأنه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر ، ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة . وقد خلق الله العناصر والقوى وسلط بعضها على بعض فلا تستطيع المدافعة إلا ما خولها الله .
و ( الحكيم ) : المحكم المتقن للمصنوعات ، فعيل بمعنى مفعل ، وقد تقدم في قوله : فاعلموا أن الله عزيز حكيم في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة .
والخبير : مبالغة في اسم الفاعل من ( خبر ) المتعدي ، بمعنى ( علم ) ، يقال : خبر الأمر ، إذا علمه وجربه . وقد قيل : إنه مشتق من الخبر لأن الشيء إذا علم أمكن الإخبار به .