جملة وقعت معترضة بين آية المحرمات المتقدمة ، وبين آية الرخصة الآتية : وهي قوله فمن اضطر في مخمصة لأن اقتران الآية بفاء التفريع يقضي باتصالها بما تقدمها ، ولا يصلح للاتصال بها إلا قوله حرمت عليكم الميتة الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أن الله لما حرم أمورا كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهل لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدة بإيناسهم بتذكير أن هذا كله إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنهم كما أيدوا بدين عظيم سمح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحته راجعة إلى الترفع عن حضيض الكفر : وهو ما أهل به لغير الله ، وما ذبح على النصب . والاستقسام بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإن من إكمال الإصلاح إجراء الشدة عند الاقتضاء . وذكروا بالنعمة ، على . وكان المشركون ، زمانا ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجوا أن تثقل على المسلمين فيرتدوا عن الدين ، ويرجعوا [ ص: 100 ] إلى الشرك ، كما قال المنافقون : عادة القرآن في تعقيب الشدة باللين لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . فلما نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه عن الطبري مجاهد ، والقرطبي عن الضحاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها ، وهو ما رواه عن الطبري ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطية إلى وهو الأصح . عمر بن الخطاب
فـ ( اليوم ) يجوز أن يراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أن ذلك اليوم كان أبهج أيام الإسلام ، وظهر فيه من قوة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيأسهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شك أن قلوب جميع العرب كانت متعلقة بمكة وموسم الحج ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شئونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعا لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفت في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد : " اعل هبل وقال لنا العزى ولا عزى لكم " . وقال أو أخوه ، يوم صفوان بن أمية هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة للمسلمين : " ألا بطل السحر اليوم " .
وكان نزول هذه الآية يوم حجة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيده قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يومئذ في قول كثير من أصحاب السير : أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم .
و ( اليوم ) يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، [ ص: 101 ] ويجوز أن يجعل ( اليوم ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال الصادق بطائفة من الزمان ، رسخ اليأس في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردد في ذلك ، فإن العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، و ( الأمس ) على الماضي ، و ( الغد ) على المستقبل . قال زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبـلـه ولكنني عن علم ما في غد عمي
يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وبالغد ما يستقبل ، ومنه قول : زياد الأعجمرأيتك أمس خير بني معـد وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير خيرا كذاك تزيد سادة عبد شمس
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : ( فلا تخشوهم ) على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأن يأس العدو من نوال عدوه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوه . وفي الحديث : ( نصرت بالرعب ) . فلما أخبر عن يأسهم طمن المسلمين من بأس عدوهم ، فقال فلا تخشوهم واخشون أو لأن اليأس لما كان حاصلا من آثار انتصارات المسلمين ، يوما فيوما ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكر الله المسلمين بذلك بقوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، وإن فريقا لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئا لأحرياء بأن لا يخشى بأسهم ، وأن يخشى من خذلهم ومكن أولياءه منهم .
[ ص: 102 ] وقد أفاد قوله ( فلا تخشوهم واخشون ) مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإياي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأن مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طي إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :
تسيل على حد الظبات نفوسنـا وليست على غير الظبات تسيل